محمد الفاتح
بين أسطورة الأمير المُبشر والسلطان الطاغية
يتجه النهج التاريخي في عصر ما بعد الحداثة نحو البحث عن “المسكوت عنه” في التاريخ، وهو المفهوم الذي يدعو إلى التركيز على الأجزاء التي تم تعمد إغفالها أو التعتيم عليها. فقد خضعت هذه الأجزاء لرقابة سياسية أو تم تناولها بشكل هامشي غير لائق بحجمها. يعتبر التاريخ العثماني أحد الأمثلة البارزة التي تُظهر هذا النوع من التعتيم، حيث يسعى بعض المؤرخين إلى خلق صورة مقدسة لهذه الحقبة، وإضفاء هالات من القداسة على سلاطين الدولة العثمانية، وعلى رأسهم السلطان محمد الفاتح.
الفاتح بين التاريخ الرسمي والحقائق المسكوت عنها.
محمد الفاتح: الفاتح المقدس أم السلطان القاسي؟
حصل السلطان محمد الثاني على لقب “الفاتح” بعد فتحه القسطنطينية في عام 1453م، وهو حدث مهم ليس فقط في التاريخ الإسلامي بل في تاريخ أوروبا والعالم بأسره. هذه الواقعة جعلت منه شخصية محورية في التاريخ، حتى أن البعض ذهب إلى ربطه بنبوءة الرسول محمد ﷺ التي بشّرت بفتح القسطنطينية ووصف الفاتح بـ”الأمير”. هنا تبدأ صناعة صورة “المقدس” للسلطان محمد الفاتح، حيث يُصور على أنه ذلك الأمير المبشر الذي ذكره الرسول في الحديث الشريف.
هذا التصور التاريخي حوّل محمد الفاتح من مجرد حاكم بشري إلى رمز ديني مقدس، غير أن هذا التمجيد غالبًا ما يصاحبه إسكات للأحداث التي تكشف عن الجوانب الأكثر وحشية في حكمه. قدّم المؤرخ التركي أحمد آق كوندز هذا التصور المتدين لمحمد الفاتح قائلاً: “كان أعظم أمله تحقيق نبوءة الرسول في فتح القسطنطينية وجعلها عاصمة لدولته.” غير أن تسليط الضوء على هذا الجانب المضيء أتاح المجال لإخفاء الحقائق المظلمة التي صاحبت حكم الفاتح.
ملف العنف والوحشية في عهد محمد الفاتح
عندما نتناول مسألة العنف والوحشية التي صاحبت حكم محمد الفاتح، نرى أن هناك الكثير مما يتم تجاهله عمداً. من أبرز هذه الملفات هو القانون العثماني الذي سنه محمد الفاتح حول “قتل الإخوة” تحت ذريعة حماية الدولة من الفتن والانشقاقات. هذا القانون سمح للسلاطين بقتل إخوتهم للحفاظ على استقرار الحكم، وأصبح جزءًا من تقاليد الدولة العثمانية فيما بعد.
لكن ليس ذلك فحسب، إذ أن الفاتح لم يكتف بقتل خصومه السياسيين فقط، بل توسع في تشويه جثثهم والتشهير بهم بعد موتهم، وهي عادة استمرت مع سلاطين الدولة العثمانية. ولعل من أشهر الحوادث في هذا السياق ما يتعلق بالإمبراطور البيزنطي قسطنطين بعد سقوط القسطنطينية. المصادر التركية تذكر أن رأس قسطنطين قُطعت وأحضرت إلى الفاتح، الذي أمر بدفن جثته بشكل لائق. غير أن المؤرخ البيزنطي دوكاس يروي قصة مغايرة تمامًا، إذ يصف كيف تم تعليق رأس الإمبراطور على عمود أغسطس قبل أن يُرسل الرأس إلى حكام العالم الإسلامي كدليل على انتصار محمد الفاتح.
من الأمير المبشر إلى السلطان المنتقم
إذا كانت الروايات الإسلامية تحاول رسم صورة السلطان الرحيم، فإن الروايات البيزنطية تقدم لنا صورة مختلفة تمامًا، تصور السلطان محمد الفاتح كطاغية منتقم. ولا تقتصر هذه الصورة الوحشية على معاملة الخصوم في ساحات المعارك فقط، بل تمتد إلى أقرب معاونيه. فمثلاً، لم يتوان الفاتح عن إعدام الصدر الأعظم جاندارلي خليل باشا، الذي كان أحد أهم أعوانه، وذلك بعدما شعر بخيانته. رغم محاولة بعض المؤرخين مثل آق كوندز تبرير هذا الفعل، فإن الكثيرين يعدونه واحدًا من أخطاء الفاتح القاتلة.
نهاية مأساوية لشخصية مُعقدة
النهاية الغامضة للسلطان محمد الفاتح تكشف عن تعقيدات أخرى في شخصيته وحكمه. تشير بعض الروايات إلى أن الفاتح لم يمت وفاة طبيعية، بل تم تسميمه على يد أطبائه المعالجين. إذا صحّت هذه الروايات، فإنها تضيف بُعدًا آخر لنهاية هذا السلطان الذي سعى طوال حياته إلى بناء إمبراطورية قوية.
صورة تاريخية مزدوجة
في نهاية المطاف، تبدو محاولة الترويج لصورة “الأمير المبشر” أو “السلطان المقدس” للفاتح غير متوافقة مع الحقائق التاريخية الكاملة التي تُظهره كحاكم بشري ارتكب العديد من الفظائع. ربما كان السلطان محمد الفاتح أحد أعظم الحكام في التاريخ، لكنه كان أيضًا حاكمًا مليئًا بالتناقضات، يقف بين صورة الأمير النبيل وصورة السلطان القاسي.
- أحمد آق كوندز، سعيد أوزتورك: الدولة العثمانية المجهولة، أستانبول، 2008.
- عبد السلام عبد العزيز فهمي: فتح القسطنطينية، القاهرة، 1969.
- حاتم الطحاوي: اقتحام العثمانيين للقسطنطينية، شهادة المؤرخ البيزنطي دوكاس، ضمن ملف الدولة العثمانية في الدراسات الحديثة، مجلة الاجتهاد، السنة العاشرة، بيروت، 1999.
- عماد أبو غازي: طومان باي السلطان الشهيد، القاهرة، 1999.