جيش الارتزاق:

الإنكشارية نموذجًا للانحراف العسكري في الدولة العثمانية

شكّل الارتزاق واحدة من أقدم المهن الحربية غير الشرعية في التاريخ؛ فهو قتال من أجل المال، لا من أجل عقيدة أو وطن. وقد اعتمدت دول عديدة عبر التاريخ، كما تفعل بعض القوى الحديثة، على تجنيد شبان من الدول الفقيرة والزجّ بهم في الحروب مقابل مبالغ زهيدة، لتحقيق مكاسب سياسية وعسكرية بأقل كلفة بشرية ممكنة.

من خطف الدوشيرمة إلى خلع السلاطين: الانكشارية بلا أقنعة.

ومع أن القانون الدولي جرّم الارتزاق منذ الاتفاقية الدولية لعام (1989)، فإن الظاهرة قديمة؛ عرفتها فارس وروما واليونان، وتوسّع استخدامها بين القرنين الثاني عشر والسادس عشر. بل استعانت بريطانيا في الثورة الأميركية بجنود ألمان مأجورين عُرفوا بجنود هِسِن.

وتُجمع الدراسات على أن المرتزقة ينتمون غالبًا للطبقات المهمشة، ويتسمون بالانتهازية وغياب الولاء، والتعطش للعنف، وعدم احترام قوانين الحرب أو قيم الفروسية، لأن ولاءهم لمن يدفع أكثر. وهو ما جعل ابن خلدون يحذر السلاطين من الاعتماد عليهم، مؤكدًا أن ملك من يستند إلى سيوف المرتزقة يكون مهددًا في كل لحظة.

ومن أبرز النماذج التاريخية للارتزاق: الإنكشارية، الذين اعتمدت عليهم الدولة العثمانية رغم كونها دولة مسلمة. فقد نشؤوا عبر نظام الدوشيرمة الذي يقوم على خطف الأطفال المسيحيين من البلقان، وفصلهم عن أسرهم، وتربيتهم عسكريًا ليتحولوا إلى قوة ضاربة بلا ولاء حقيقي إلا للمال والامتيازات. ومع الزمن، انخرطت في صفوفهم عناصر من جنسيات وأديان متعددة، فتحوّلوا إلى جيش مصالح لا جيش عقيدة.

وتُظهر كتب التاريخ ما بلغوه من تغوّل؛ إذ أصبحوا يتدخلون في تعيين السلاطين وخلعهم، ويعزلون كل من يحاول الحدّ من نفوذهم، كما حدث في خلع السلطان سليم الثالث ثم مصطفى الرابع. وقد وصف الجبرتي ولاةً مثل والي مصر خاير بك بأنهم أدوات بطش في يدهم، إذ ضيّق على الجراكسة، وضربهم غدرًا عندما طالبوا برواتبهم، وفرض عقوبات قاسية تصل إلى القتل لمن يُشتبه في عدم ولائه للدولة العثمانية.

كما يصف ابن إياس حال الجراكسة بأنهم أصبحوا في غاية الذل والفقر، نتيجة تسلط الإنكشارية ووكلائهم. ورغم أن بعض المؤرخين الممجّدين للدولة العثمانية مثل المتطرف علي الصلابي يذكرون فساد الانكشارية وانغماسهم في المحرمات وخلعهم للسلاطين، إلا أنهم لا يتناولون جذور المشكلة: التأسيس الخاطئ للجيش الجديد، والاعتماد المفرط على المرتزقة لتحقيق السيطرة والتوسع، والتغاضي المتعمد عن تجاوزاتهم.

وتُطلق المصادر على الإنكشارية أسماء مرتبطة بالطريقة البكتاشية مثل “عسكر البكتاشية” وأبناء الحاج بكتاش، كما ظهرت وحدات وظيفتها الدعاء للجيش صباحًا ومساءً؛ وهي مفارقة تكشف التناقض بين البنية الروحية المزعومة والأخلاقيات العنيفة التي مارسها هذا الجيش. أما في حملات مثل سقوط الدرعية 1233هـ/1818م، فتدل المصادر على أن الجيش كان خليطًا من نصارى وأفارقة وأتراك، مما يفنّد الادعاء بأن العثمانيين لم يشاركوا بشكل مباشر.

لقد بلغ الانكشارية من البطش أن الدولة نفسها أصبحت رهينة لهم؛ يخلعون ويولّون، ويُفشلون أي مشروع إصلاحي، ويعاقبون كل من يجرؤ على الحد من نفوذهم. وهكذا كانت سياسة السلاطين القائمة على ازدواجية السلطة والاعتماد على المرتزقة أحد أهم أسباب انفلات الانكشارية وتحولهم إلى قوة هدامة داخل الدولة العثمانية.

  1. أحمد الرمال ابن زنبل، واقعة السلطان الغوري مع سليم العثماني: آخرة المماليك، تحقيق: عبدالمنعم عامر (القاهرة: د.ن، 1962).

 

  1. أحمد السعيد سليمان، تأصيل ما ورد في تاريخ الجبرتي (القاهرة: د.ن، 1979).

 

  1. عبدالجواد صابر إسماعيل، ولاية خاير بك على مصر (القاهرة: مطبعة الحسين الإسلامية، 1990).

 

  1. عبدالعزيز جمال الدين، مختارات من تاريخ الجبرتي(القاهرة: مكتبة مدبولي، 2022).

 

  1. علي الصلابي، الدولة العثمانية عوامل النهوض والسقوط (بيروت: دار المعرفة، 2008).