مدحت باشا:

الإصلاح الذي خُنق بِحبال السلطان

كان الشك سيف العدل عند العثمانيين، لكنه كثيرًا ما كان يُشهر ليكون سيف انتقام. ففي منتصف القرن التاسع عشر، كانت الدولة العثمانية تتجه نحو الانهيار؛ تتوالى الأزمات الاقتصادية، ويتردد صدى الثورات في البلقان، وتتفكك أوصال الإدارة، وسط سلطان ضعيف ومستشارين أقوياء. في خضم هذا الاضطراب، برز مدحت باشا بوصفه أحد أعمدة الإصلاح، لكنه كان أيضًا هدفًا لنظام يستبدل المحاكمة بالاغتيال.

كيف أطاح السلطان عبدالحميد الثاني برجل الدستور في ليلة ظلماء؟.

غادر مدحت الآستانة بعد الاضطرابات في عهد السلطان عبدالعزيز، لكنه عاد لاحقًا ليتولى وزارة العدلية ورئاسة مجلس الشورى، إلا أنه اصطدم بفساد الدولة وتخبطها. كتب في شوال 1291هـ/1874م إلى سكرتير السلطان محذرًا من كارثة قادمة، ثم اعتزل العمل السياسي، لكنه بقي يرقب المشهد عن كثب.

الأزمات تعاقبت؛ الصدور العظام يتبدلون كأوراق الخريف، ومحمد رشدي باشا وأسعد باشا لم يقدما حلًا، بل ساءت الأمور حتى هدّد الإفلاس الدولة، وتدخلت القوى الأوروبية بحجج إنسانية لكنها تحمل أطماعًا سياسية. وفي ظل الفوضى، بدأ النفوذ الروسي يتسلل مستغلًا ضعف الدولة وهشاشة القرار.

وفي عام 1876م، جلس عبدالحميد الثاني على العرش العثماني وسط احتفال مهيب، وألقى خطابًا وعد فيه بالإصلاح، لكن خلف الوعود كانت ترتسم ملامح استبداد مقنّع. اختار السلطان رجاله المقربين؛ محمود جلال الدين باشا قائداً عامًا للجند، وسعيد باشا الإنجليزي رئيسًا للياوران، ثم تجاهل وعوده لمدحت باشا بشأن تعيين سكرتيرين من أهل الثقة.

لم يقدّر مدحت باشا حجم الخطر، فترك مسألة السرعسكر دون ضغط، رغم معرفته بأن دعم عوني باشا كان حاسمًا في خلع عبد العزيز. حين تلكأ السلطان في تنفيذ وعوده، قبل مدحت أنصاف الحلول، وتنازل عن بعض الشروط في سبيل إقرار الدستور. لكن السلطان، الذي كانت عينه على استعادة السلطة المطلقة، بدأ التململ من مدحت، فقاومه بالمماطلة، ثم أوعز إلى رجاله بإفشاله. رفض نص الدستور كما كتبه مدحت، وأصر على تعديلات أفرغته من مضمونه. وأمام الضغوط، قبل مدحت على مضض.

تسارعت الأحداث، وبدأ السلطان يخطط للتخلص من مدحت. تمت محاكمته في جلسة مغلقة في قصر يلدز، خلف ستار حضر السلطان شخصيًا ليراقبها، في خرق صريح لتعهدات علنية بمحاكمة علنية. الادعاء كان عبثيًا: اتُّهم مدحت بالتآمر على قتل السلطان المقتول عبدالعزيز، وقال الادعاء إن المؤامرة شارك فيها عدد من الضباط والخدم، وجرى القتل بأمر مباشر من لجنة ضمت مدحت ورفاقه. لم تُقدَّم أدلة حقيقية، ولم يُسمح لمحامي مدحت بالتواصل معه إلا نادرًا.

صدر الحكم بالإعدام، ثم خفف إلى النفي تحت ضغط دولي. نُفي مدحت إلى الطائف، وظل هناك تحت رقابة مشددة، يكتب لعائلته شكاوى من سوء العلاج والطعام. في رسائل متأخرة، أشار إلى أنه يُدسّ له السم، وأنه لا يثق بمن حوله. وفي 26 أبريل 1883، دهمته مجموعة رجال ليلاً، وخنقوه حتى الموت. أُرسلت جمجمته إلى يلدز في علبة وُصفت بأنها تحوي “عاجًا يابانيًّا”. لقد كان ختامًا مأساويًا لرجل أراد إصلاح الدولة فابتلعته.

قُتل مدحت باشا لا لأنه خان، بل لأنه صدق. السلطان، الذي وعد بالإصلاح، قتل الدستور وقتل صدقه. ولم يكن القتل بالسم أو الحبل، بل كان اغتيالًا للدولة من الداخل. فتحوّل الحكم في عهد عبدالحميد الثاني من طموح إصلاح إلى عصر استبداد طويل، ومهد الطريق لسقوط نهائي جاء بعد عقود. أما مدحت، فظل شاهدًا على أن الشك في السياسة قد يكون ضرورة، لكن حين يحكم السياسة وحده، يصبح طريقًا للدم.

  1. زكريا بيومي، قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين (جدة: عالم المعرفة، 1991).

 

  1. عبدالعزيز الشناوي، ‎الدولة العثمانية دولة اسلامية مفترى عليها (القاهرة: مكتبة الأنجلو، 1980).

 

  1. محمد بن إياس، بدائع الزهور في وقائع الدهور، تحقيق: محمد مصطفى (القاهرة: د.ن، 1984).

 

  1. محمد فريد بك، تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي (بيروت: دار النفائس، 1981).