رحلة الوزير الإسحاقي

من المغرب إلى الحج سنة 1143هـ

مقالي هذا رحلة في رحلة عن البلد الأمين، وتُعَد هذه الرحلة مصدرًا غنيًّا بالإنتاج وعاءً مهمًّا ينضح بمعلومات وروايات أحداث ومواقف عاصرها كاتبها “الوزير محمد الشرقي الإسحاقي”، ولقيمتها التاريخية أشاد بها الباحثون المغاربة وغيرهم، والتقى بعلماء وجلس إلى حلقاتهم، والتعريف بالمسالك والممالك ووصف الطرق وظروفها.

وتُعتبَر الرحلات تسجيلًا لنشاط مدونها، وتختلف الأساليب والأهداف ولكن ينتج تسجيلًا لمعلومات قد لا يلتفت لها مؤرخو عصرهم؛ لأن الرحالة يسجِّل ما يشاهده ويلمسه، ولا يعني ذلك التعميم على كل من كتب بأنه قد نقل نقلًا خطأً أو مبالغًا فيه، ومثل شخصية الإسحاقي كوزير وله منصبه في بلاده –المغرب– وكان مرافقًا ضمن الوفد المرافق لزوجة السلطان وحفيده إلى البقاع الطاهرة.

لقد كتب الإسحاقي في مرحلة وحقبة مهمة، وهي علاقة المغرب الحديث بالشرق العثماني –هكذا وصفه محقق المخطوط محمد الأندلسي-، وكذلك دول المغاربة التي كانت تابعة له تبعية اسمية، وهذا تأكيد آخر أن العثمانيين تبعهم المغرب اسمًا فقط. لقد وثَّق الإسحاقي السياسة التركية –وأيضًا هنا يصفهم بعرقهم التركي– عن مدى مظاهر الظلم والجور الذي تتعرض له المناطق العربية، منتقدًا الجور في جمع الجباية والضرائب والرشوة وفساد القضاء والتضييق على الحجاج، خاصة المغاربة منهم، وتناول ذلك خلال رحلتهم إلى الوصول وتأدية مناسك الحج وفيها الكثير المثير.

يقول الإسحاقي: “لما خرجنا من مضيق الشعب الذي يدخل منه إلى بدر-يقصد محاذاة موقعة بدر الكبرى– على طريقنا من ينبع، لقيت شيخًا من أتراك مصر، فسايرته في الطريق هنيئة، فسمعته يتكلم مع رفيق له في شأن بدر وحنين، فقلت: يا شيخ حتى حنين هنا؟ فقال لي: نعم، فقلت له: وأين هي؟ فقال لي: من وراء هذا الجبل، فقلت في نفسي: سبحان الله! ما أجهل هذا الشيخ! ثم سألت الناس، فإذا هم أجمعون يلهجون ويقولون: بدر وحنين، ينطقون بهما كذلك حتى كأنهما لا يعقل أحدهما وهما اسم واحد…”.

ويقول في موضع آخر من رحلته عند ذكره للحجر الأسود ومكة المشرفة ووصفها وكل ما يتبع ذلك من مشاهدات، يقول: “… ومكة شرفها الله بلدة قد وضعها الله بين جبال محدقة بها، وهي بطن وادٍ مقدَّس، كبيرة مستطيلة تسع من الخلائق عددًا لا يحصيه إلا الله عز وجل…” .

ويقول: “… ولقد شاهدنا من صعاليك الحجاج من لا يملكون بغلة ولا بلغة، ولا يجدون من العيش بلغة، من يقول له حجتان وثلاثة حجج وأكثر، وعلى تلك الحال في الحل والترحال…”.

ويصل إلى ذكر وقائع شاهدها وتمت ممارستها أمامه، وهي: “… وما ذاك إلا حكمة من الله وتصديق لدعوة نبيه إبراهيم عليه السلام، هذا مع قيام أسباب أُخَر تبيح أو توجب التأخر عن الحج في هذه الأزمنة، من عادية العرب وامتهان الترك للحجاج وإذلالهم لهم في المصادر والموارد ومصادرتهم في الأموال والأمتعة وقبض الخراج منهم (عن يد وهم صاغرون) -يستشهد بهذه الآية من قسوة ما رأى- وقد شهدناهم -قبح الله سعيهم- وَكَّلوا على مماكسة الحجاج على أحمالهم يهوديًّا من اليهود، وقبض ذلك مرتين، وربما أحتاج -لعنه الله ولعن من وجهه- (هذه عبارات الإسحاقي) إلى كشف بعض الخيام، بل إلى الحرم لاستخراج ما عسى أن يكون قد غُيِّب من الأحمال التي يثبت نهايتها في ديون المكوس التي لا ترتضيها أطايب النفوس، ويكفيهم مهانة وقلة ديانة اتخاذهم ببيت الله الحرام سببًا للمعيشة الحرام، بما يتساقطون عليه ويتهافتون عليه عند ولاتهم وأكابر مجرميهم من طلب التولية على الأعمال المكسية التي سيزعمون أنها قوام كسوة الكعبة المرضية”.

وأختم رحلتي بما وثَّقه الإسحاقي من تحسُّر على حال البيت المعظم وجمع الأموال وتعيين من هم أعداء له، فقال: “… هذه قريش في جاهليتها عندما أرادوا أن يبنوا البيت الحرام تعاقدوا وتعاهدوا على أن لا يدخلوا في بنائه مالًا حرامًا، فيا لله من هذه الأوباش! أذال الغز الذين اتخذوا مال الله دولًا وعباد الله خولًا، قطع الله دابرهم وألحق بأولهم إلى العذاب آخرهم، وقطع بِدَعهم بسيوف الأشراف أهل البيت الذين تولى الله تطهيرهم تطهيرًا”.

ذلك حال وزير في عصره، فكيف حال الضعفاء آنذاك؟!