ألقاب سلاطين العثمانيين
تترجم الرغبة في الوصول للسلطة والسطوة والقسوة والإيغال في الترهيب
اختلفت ألقاب سلاطين الدولة العثمانية عبر مراحلها التاريخية العديدة بدءًا من مؤسس الدولة عثمان ” غازي” مرورا بمرحل القوة والتوسع والسكون وانتهاءً بمرحلة الانحطاط والضعف والانهيار، لذا سيلحظ القارئ في تاريخ تلك المراحل المتباينة بقاء واستمرارية لقب “الغازي”، رغم أن بعض السلطان لم يتعد أسوار قصره خلال سنين حكمه وسلطنته، بل ونجد أن هذا اللقب ظل يستخدم في أحلك مراحل الضعف الذي مرت به الدولة العثمانية من انحدار وانهيار أي حتى آخر رمق في الدولة العثمانية.
ولا شك أن تلك الألقاب كان لها مدلولاتها السياسية والاجتماعية والعسكرية، وتعني الكثير للدولة كحكومة وللسلطان ذاته. وسوف نجد أن هناك ألقاب أخرى أضيفت للقب الغازي كما هو حال السلطان بايزيد الأول الذي لقب بالبرق أو الصاعقة” يلدرم “YILDIRIM وفسر ذلك كناية عن الخفة في الحركة ومهارته في الحرب ، وفي الواقع كان أخوه الأكبر يعقوب أولى بالسلطة منه كونه الكبير ، ولكي يأمن من منازعته قتله، فلامه رجال السلطنة على ذلك ، وانكروا عليه وأكثروا عليه اللوم، فقال لهم :” إن أمير المؤمنين الذي هو ظل الله في أرضه يجب أن يكون واحد في الأرض ، كما ان الله واحد في السماء”. ؟! وهو تبرير ومنطق غريب عجيب لقتله أخيه من اجل الوصول إلى كرسي العرش على جثة أخية !!.
بالغ مؤرخون كثر بوصوفات سلاطين العثمانيين من خلال منحهم الكثير من الألقاب.
وامتداد لحب السلطة والسيطرة والوصول لكرسي الحكم نجد أن هناك ألقاب أخرى أخذت مكانها في التاريخ العثماني مثل “سلطان البرين وخاقان البحرين” و”سلطان العالمين”، ويرى المؤرخ “خليل إينالجيك” أنه بدءا من عهد محمد الفاتح (1451-1481م) أي بعد أربعة قرون من عهده استخدم السلاطين العثمانيون ذلك اللقب، وفيه دلالة على للسلطة المركزية المطلقة. كما لقب السلطان سليم الأول ” ياووز” أي القاطع أو القاسي شديد البأس، ومثل هذا اللقب انعكس بوضوح على شخصيته في تعامله مع المناطق التي احتلها وغزاها كالشام ومصر وما أحدث فيهما من مجازر دموية وفظائع في حق أهلهما دونتها كتب التاريخ وسجلتها في سجله الوحشي، ومع ما فعله من جرائم تم تلقيبه من قبل خطيب جامع الظاهر في حلب بمالك الحرمين الشريفين ثم بخادم الحرمين الشريفين.
وقد أطلق على ابنه من بعده سليمان القانوني بلقب سلطان البرين والبحرين، وقد أفرط وبصورة مبالغة في مدحه المؤرخ التركي “فريدون أمجان ” في كتابه ” سليمان القانوني سلطان البرين والبحرين” بقوله أنه خرج للقتال ممتطيا جواده خلال غزواته ما يربو على 48000كم علما أن محيط الأرض 40000كم. وقس على ذلك من الصور التي يراد للقارئ أن يقبلها ذهنه وتمر عليه مرورا عابرا ويقبل بها دون وعي وتفكير وإمعان عقل.
- إبراهيم بك حليم : تاريخ الدولة العثمانية العلية( بيروت: مؤسسة الكتب الثقافية، 2002م)
- خليل اينالجيك: تاريخ الدولة العثمانية من النشوء إلى الإنحدار، ترجمة: محمدالأرناؤوط(بيروت: دار المدار الإسلامي، 2002م)
- فريدون أمجان: سليمان القانوني سلطان البرين والبحرين، ترجمة: جمال فاروق وآخر( القاهرة: دار النيل، 2014م)
- محمد جميل بيهم: فلسفة التاريخ العثماني( عمّان: الأهلية للنشر والتوزيع، 2108م)
- محمد علي الأنسي: الدراري اللامعات في منتخب اللغات(بيروت: مطبعة جريدة بيروت، 1318ه)
- يوسف آصاف، تاريخ سلاطين آل عثمان، تحقيق: بسام عبد الوهاب الجابي، ج2(دمشق: دار البصائر، ط3، 1985م)
بين قتل الإخوة وحكم الحريم
هنا تختبئ قصة ضعف سلاطين وسلالة العثمانيين
التاريخ حقائق ووقائع ولا يمكن تزيينه بمساحيق خدمة لأجندات سياسية لم تعد خافية على الجميع. وقوة الدول تكمن في تناولها للتاريخ من خلال مقاربة موضوعية تغيب عنها الذاتية، على عكس التاريخ العثماني الذي ينطلق من ذاتية السلاطين ومديحهم الذي لا يشابه الواقع.
الأقلام المتعثمنة والمتأسلمة تجتهد في التزوير وتلهث وراء التبرير، من أجل إعادة كتابة تاريخ عثماني على المقاس يمكن أن يشكل أحد أدوات القوة الناعمة لتركيا في مشاريع الانتشار والاختراق، باستعمال الأقلام الإخوانية التي اجتهدت في تقديم تاريخ عثماني يفوق في قدسيته صفاء ونقاء سيرة القرن الأول من الإسلام والذين قال عنهم الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام “خير القرون قرني ثم الذين يلونونهم ثم الذين يلونونهم” .
وإذا كانت ظاهرة قتل السلطان الجديد لإخوته “حفاظا على السلطة” كما يدعون، بدعة عثمانية خالصة، فإن السلطان محمد الفاتح قد جعل من هذه البدعة السيئة “قانونا رسميا” ارتكن إليه سلاطين الدولة العثمانية من أجل تصفية “المنافسين المحتملين” على العرش، من خلال “قانون نامه” الذي تم تناوله في العديد من المقالات العلمية.
الأقلام المتعثمنة والمتأسلمة تجتهد في التزوير وتلهث وراء التبرير.
في هذا السياق، نص القانون العثماني “على أن السلطان يولي أبناءه ولايات فيرتحلون لها مع مؤدبيهم ليتدربوا على أعمال الحكم، تمهيداً لوصول أحدهم إلى العرش، ثم بعد ذلك عُدِّل التطبيق لتكون الولاية للابن الأكبر فحسب -مع بقاء قانون إباحة قتل الإخوة الذكور- حتى قام محمد الثالث، بعد قتله إخوته التسعة عشر بإلغاء نظام تعيين الأمراء ولاة وأسس لنظام “القفص” وهو جناح أميري في الحرملك -حيث يحبس الأمراء ويعزلون عن العالم ويمنعون من الزواج حتى الموت”.
لقد كان قتل الإخوة وسلطة الحرملك إحدى أهم أدوات ضبط السلطة السياسية داخل الدولة العثمانية، ولذلك تميزت فترة حكم معظم سلاطين الدولة العثمانية بالجمع بين الأداتين؛ قتل الإخوة ثم تدخل النساء من خاصة الحرملك في تدبير الشأن السياسي للسلطنة. وهنا نسجل بأن مراد الرابع، ابن السلطانة كوسيم، لم يحد، هو الآخر، عن هذا القانون حيث قتل هو الآخر أخويه بايزيد وسليمان.
ويمكن القول بأن نساء الحرملك قد استفدن، نسبيا، من ظاهرة “الاغتيالات السلطانية” إن صح التعبير، حيث تحول مركز ثقل القرار إلى زوجات وأمهات السلاطين، ليطفو إلى السطح اسم السلطانة صفية زوجة السلطان مراد الثالث وأم السلطان محمد الثالث. هذه الأخيرة كانت مركز ثقل صناعة القرار السياسي داخل الحرملك وستقود سياسة عثمانية مهادنة للبندقية مسقط رأسها وموطنها الأصلي.
ورغم المنافسة الشرسة بين سيدات القصر السلطاني إلا أن السلطانة صفية استطاعت حسم هاته الصراعات، خاصة بعدما أمرت بقتل 18 ابنا للسلطان مراد الثالث قبل حتى دفن هذا الأخير، وبالتالي ضمنت انفراد ابنها محمد الثالث بالسلطة. ومن دهاء السلطانة صفية أنها كانت صاحبة فكرة الأقفاص التي أشرنا إليها أعلاه، قبل أن تركب على فتوى قتل الأبناء لتخلي المجال أمام ابنها محمد الثالث لينفرد بحكم الأستانة.
السلطانة صفية بقيت سيدة القصر إلى غاية حكم السلطان أحمد الثالث والذي أدخل إلى القصر سيدة كانت سببا في إسقاط عرش السلطانة صفية وهي السلطانة كوسيم، والتي شُغف بها السلطان أحمد وتزوجها رغم معارضة سيدة القصر آنذاك السلطانة صفية، في مخالفة لأعراف القصر السلطاني، وليطلق عليها لقب “السلطانة القائدة”، لتلد له السلطان مراد الرابع وابراهيم الأول.
لقد كانت كوسيم على قدر كبير من الدهاء، حيث استطاعت تدبير الصراع داخل الحرملك، وأيضا الانفتاح على جهاز الانكشارية والذي كان يعتبر أحد أهم وأخطر مراكز ثقل الحكم العثماني. ومن خلال مجموعة من التفاهمات مع السلطان “الضعيف” مصطفى الأول، استطاعت كوسيم أن تُنصب ابنها ذو 11 ربيعا وبه حكمت البلاد، واستطاعت أن تبقى لقرابة نصف قرن كرقم صعب داخل المعادلة السياسية العثمانية.
لم تنتبه السلطانة صفية إلى عامل السن كمعطى مهم وسلاح حاسم في أيدي الفاتنة كوسيم والتي استطاعت حسم الصراع أمام محاولات يائسة لسيدة أنهكتها السنون والصراعات المتكررة على السلطة داخل الجناح النسائي للسلاطين ولتنتهي قصة السلطانة صفية في أحد القصور على ضفاف البوسفور لا يكاد يسمع لها ركزا، ولم تدون كتب التاريخ بدقة تاريخ أو ظروف وفاتها.
- طلال الطريفي، العثمانيون ماكان حديثًا يفترى (الرياض: دار ائتلاف، 2021).
- وليد فكري “الجريمة العثمانية: الوقائع الصادمة لأربعة قرون من الاحتلال”، الرواق للنشر والتوزيع، 2019.
- د. محمد فتحي عبد العال “السلطان وبناء المسجد الحرام”، مقالة نشرها صاحبها على الرابط https://www.google.co.ma/books/edition.
العلاقة الغامضة
بين السلطان محمد الثاني ومعلمه آق شمس الدين
عُرف السلطان محمد الثاني، المُلقب بفاتح القسطنطينية، عندما حصر إنجازاته في هذا الحدث، مما يُعدُّ قراءة مجتزأة لشخصية مليئة بالتناقضات. وربما من أبرز وأعمق هذه التناقضات كانت العلاقة الغامضة التي جمعت بين السلطان ومعلمه آق شمس الدين، الرجل الذي لم يكن مجرد عالم ديني، بل امتد تأثيره إلى مجال الروحانيات والعوالم الأخرى، وهو الأمر الذي أثار حوله الكثير من الأسئلة.
كانت العلاقة بين محمد الثاني وآق شمس الدين استثنائية إلى حد كبير، حيث كانت تتجلى فيها سيطرة المعلم على عقل السلطان وقلبه، حتى قاد الأخير في اتخاذ قراراته المصيرية، مستمرًا في هذا الدور حتى وفاته. ومن القصص التي توضح هذه الديناميكية، ما ورد أن آق شمس الدين كان لا يقوم للسلطان عند دخوله، بل يظل مضطجعًا، مما أثار حيرة وغضب السلطان. وعندما طلب منه السلطان الدخول إلى خلوته الروحية، رفض آق شمس الدين، مبررًا ذلك بأن السلطنة ستسقط من عين السلطان إن دخل هذه الخلوة، مما قد يؤثر على حكمه.
تجاوز الفاتح بخيالاته أنه اعتلى مرتبةً فوق البشر.
الخلوة الروحية وتأثيرها على شخصية السلطان
كان السلطان محمد الفاتح يرغب بشدة في الالتحاق بالخلوة الروحية الخاصة بآق شمس الدين، إلا أن معلمه أصر على منعه، موضحًا أن الخلوة تفتح أبوابًا من اللذة الروحية قد تجعله يرى السلطنة دون قيمة، وهو أمر قد يُضعف تماسك حكمه ويعرضه للخطر. وقد أثرت هذه الخلوة بشكل كبير في شخصية السلطان؛ إذ أصبحت جزءًا من طموحه الروحي، لدرجة أنه غضب عندما رأى أن معلمه يسمح لبعض العامة بدخولها، ولكنه يمنعه. ويبدو أن آق شمس الدين كان يحاول دفع السلطان للتواضع، حيث قيل له أن المعلم كان يرى في السلطان شيئًا من الغرور بعد إنجازاته العسكرية الكبيرة.
آق شمس الدين: عالم غامض بين الدين والعوالم الغيبية
لم يكن آق شمس الدين مجرد عالم ديني، بل كان يتناول علومًا غريبة ترتبط بالكواكب والعوالم الأخرى، وهو ما أثار حوله هالة من الغموض والتساؤلات. يُقال إن النباتات كانت “تتحدث” معه، كما أشار بعض المؤرخين إلى أنه كان طبيبًا للقلوب والأبدان، حيث كانت الشجر تُعلمه بعلاج الأمراض. من أبرز القصص التي تروى عنه أنه حدد موقع قبر الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري، مدعيًا أن روح الصحابي التقت بروحه وهنأته على فتح القسطنطينية.
انعكاسات شخصية المعلم على شخصية السلطان
من خلال علاقته بآق شمس الدين، تطورت لدى السلطان محمد الثاني رؤية تجعله يعتقد أن له مكانة خاصة تتجاوز عامة البشر، ربما نتيجة إقناع معلميه له بذلك. ومن الأمثلة البارزة لهذا الاعتقاد، إصداره لقوانين تبيح قتل المنافسين على العرش من الإخوة والأبناء، وهو تقليد استمر بعده. كذلك كان حبه للشعر المتعلق بالديانة النصرانية واهتمامه بـ “المردان” كان جزءًا من جوانب شخصيته المتناقضة. كل ذلك يشير إلى تكوين شخصية معقدة تتراوح بين الإيمان بالقدرات الروحية والاعتزاز المفرط بالنفس، مما أثر على حكمه وأحكامه.
- محمد الشوكاني، البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع (بيروت: دار المعرفة، د.ت).
- محمد حرب، العثمانيون في التاريخ والحضارة (دمشق: دار القلم، 1989).
- محمد محجوب، وكأنني ولدت من جديد (الرياض: مكتبة العبيكان، 2020).