
محمد الفاتح:
الدين بين السياسة والاعتقاد الشخصي
لم يكن واضحًا بشكل جلي ما العقيدة التي يؤمن بها أو يفضلها السلطان محمد الفاتح، فقد تقلب مثل كثير غيره من السلاطين بين عقائد عدة، لعل أهمها العقائد الصوفية المتطرفة، والخارجة عن العقل والمنطق، مثل الحروفية أو البكتاشية، أو الماتريدية، لكن المؤكد أن بعضهم فضل تلك العقائد الصوفية المتطرفة على غيرها لما فيها من طقوس اعتقدوا أنها تخدمهم وتعطيهم المكانة الرفيعة والقدرة التي كانوا يريدونها لتساعدهم في الحكم والسيطرة، وأيضًا استصدار الفتاوى التي تناسب أسلوبهم في الحكم.
الفاتح: رحلة فكرية بين التصوف والإيمان المسيحي.

في كتاب “تصحيح المفاهيم العقدية في الصفات الإلهية، أو، الفتح المبين في براءة الموحدين من عقائد المشبهين والمعطلين” لمؤلفه عيسى بن عبد الله بن محمد بن مانع الحميري جاء هذا النص الذي يؤكد عقيدته الصوفية وطريقته: “وكان محمد الفاتح، وهو حنفي المذهب ماتريدي المعتقد، صوفي المشرب، وقد ثبت ذلك بالتواتر والاستفاضة”.
السؤال الكبير: هل كان ذلك نتيجة لانفتاح السلاطين على العقائد المختلفة، أم لأنهم ورثوها وقدموا بها من أواسط آسيا قبل قدومهم إلى الأناضول ثم صبغوها بصبغة الإسلام بعد إسلامهم؟. المؤكد أن الفاتح كما غيره تقلب في كثير من العقائد وفضل بعضها على بعض في مراحل متعددة من حياته الفكرية، فقد بدأ صوفيًا ماتريديًا، ثم مال للحروفيين، لكنه وبعد فتح القسطنطينية مال للنصرانية كثيرًا حتى إنه اتهم باعتناق المسيحية.
لذا يقول الكاتب إيتاج أوزكان في كتابه “السلطان محمد الفاتح”: لقد قدر السلطان محمد الفاتح الخبرة العلمية لدى جنادويس – زعيم بطريركية القسطنطينية – حيث كانا يعقدان فيما بينهما جلسات علمية صريحة بين الحين والآخر، ولما طلب منه السلطان أن يؤلف كتابًا يشرح فيه العقائد الأساسية للنصرانية، ألف جنادويس كتابًا أطلق عليه اسم رسالة في العقيدة، شرح فيه المعلومات الرئيسة في النصرانية، وقدمه للسلطان، كما أمر السلطان بعقد مناقشة حول العقيدة النصرانية في حضرته بين العلماء المسلمين والبطريرك “ماكسيم مانويل” وطلب من البطريرك المناقشة.
لم يكن الميل إلى المسيحية مجرد سياسة انتهجها السلطان محمد الفاتح بعد السيطرة على القسطنطينية،
بل كانت اضطرابًا في عقيدة السلطان اتضح بشكل سافر إثر لقائه مع البطاركة وزعماء المسيحية الذين قربهم ومكنهم من السلطة والمال، أعقبها مشاعر فياضة تجاه المسيحية أكّدتها مجموعة من الآراء فصلت في كتاب “السلطان محمد الفاتح” من تأليف الكاتب محمد سالم الرشيدي، والذي تناول الآراء المختلفة حول عقيدة السلطان محمد الفاتح، ونقلها إلى القارئ العربي عن كتب ومؤرخين مسيحيين شهدوا على عصر الفاتح، وشرحها فيما يلي: يقول المؤرخ الإيطالي “سباندوجينو”: إن السلطان الفاتح كان قد استماله بطريرك القسطنطينية إلى النصرانية وأنه في آخر حياته كان يمارس بعضًا من طقوسها.
كما أشار المؤرخ الرومي “خالكو نديل” إلى أن السلطان محمد الفاتح لا دين له.
أما المؤرخ الفرنسي جييه فيقول: إن الفاتح لم يقتنع بصحة دين من الأديان، لكنه كان تارة يتظاهر بالإخلاص للقرآن وتارة بالإخلاص للإنجيل ليخدع النصارى والمسلمين على السواء حسبما توحي إليه السياسة والمنفعة، وشبيه لهذا قول لامارتين بأن الفاتح لم يكن مسلمًا إلا ظاهريًا فقط مجاراة لشعبه.
ويقول الأستاذ تيزان أيضًا: إن الفاتح كان يراوده شك فلسفي، ولم يكن يعنيه أمر الدين في شيء، غير أنه كان مضطرًا أن يظهر للناس احترامه للدين الإسلامي. وأخيرًا يقول دستريل: إن الفاتح كان نصف نصراني ونصف مسلم”. انتهى ما نقله الرشيدي، لكن الجدل حول عقيدة السلطان محمد سيبقى طويلًا وغير محسوم، فهل كان متدينًا تدينًا سريًا بالمسيحية، أم أن العقائد المشبوهة التي كان يعتنقها هي من قادته إلى تفضيل النصرانية، أم أن زوجة والده المسيحية التي أحبها هي من أثرت فيه.


- إيتاج أوزكان، السلطان محمد الفاتح (القاهرة: دار النيل، 2014).
- سالم الرشيدي، محمد الفاتح (القاهرة: دار البشير، 2013).
- عيسى الحميري، تصحيح المفاهيم العقدية في الصفات الإلهية (بيروت: دار الأخباب، 2010).


شيخ الإسلام في زمن الفاتح
بقيت مرجعية مركز شيخ الإسلام خارجة عن مؤسسات السلطة الحاكمة، بمعنى منذ نشأة الدولة العثمانية وحتى النصف الأول من القرن الخامس عشر، أي إلى عام 1351هـ/1451م، حيث كانت السلطة ترجع فيما يعترضها من فتاوى لجمهرة من علمائها الذين تُعتبر لهم مكانة عندهم. وكانت الأعراف متمكنة منهم في تلك الحقبة، واستمرت حتى بعد إنشاء مركز شيخ الإسلام.
تحول أعلى منصب ديني في الدولة العثمانية إلى أداة في يد السلاطين.

لقد حدث تحول منذ ذلك التاريخ زمن الفاتح لمنصب المفتي الأكبر، وتم تعيين شمس الدين فناري كأول شخص يحمل اللقب. ظهر ذلك التحول عن ظهور توجه مختلف من السلطان المعتلي عرش الدولة، ولا سيما بعد الفتح، إذ أصبحت المؤشرات تدل على بناء للدولة فيه من المعتقدات التي تجعلها ذات قدسية يطمح إلى الوصول إليها سلاطين الدولة ولضمان بقائها بمشروعية مختلفة، لا سيما أن الأحاديث التي تم تطويع شخصية محمد الثاني عليها تشير إلى أنه هو المقصود دون شك أو تراجع عن فكر اتجه ناشراً تعاليم بتوجه شرعي مختلف، وقوانين سياسية ترتبط بالدين.
تلك الأعمال نتج عنها اتجاه جديد للسلطة، وهو في قوة سياسية تصدرتها بعد سقوط حاضرة الدولة البيزنطية. لقد تم الاستعانة بطبقة القولار – الانكشارية – الذين يتم تعيين الصدر الأعظم منهم، لتعزيز شرط أساسي من شروط تكييف موقع الصدر الأعظم بما يتناسب مع التوجه السياسي للسلطان نحو ضبط مؤسسات السلطة ومركزية القرار في يده.
إن العثمانيين أخذوا بالكثير من العادات العربية والفارسية والبيزنطية في تنظيمهم للأجهزة الإدارية، ودمجوا معها بعض العادات التركية القديمة، وصهروها كلها في بوتقة واحدة مميزة. وذلك لا يمنع أن الدمج جعل الدولة العثمانية تظهر بمظهر الوريث الشرعي لجميع تلك الحضارات التي سبقتها، ولها الأحقية الشرعية دون مراجعة.
بعد فتح القسطنطينية سنة 857هـ/1453م، بست سنوات، حدد الشيخ آق شمس الدين موضع قبر أبو أيوب الأنصاري، قائلاً: «إني أشاهد في هذا الموضع نوراً، لعل قبره ها هنا» وذهب لذلك الموضع وتوجه زماناً، ثم قال: (التقت روحه مع روحي وهنأني بهذا الفتح) وقال: «شكر الله سعيكم حتى خلصتموني من ظلمة الكفر». وبعد ذلك أمر السلطان محمد الفاتح ببناء قبة على ذلك الموقع.
من معتقدات الماتريدية مثل تلك الخزعبلات والوقوف على تكهناتها ليتمم بعد أقوالهم أفعالاً كالتي أمر بها الفاتح، وهي بناء القباب!!؟ إن اتخاذ شيخ للإسلام ومنحه مكانة أرفع من مكانة الصدر الأعظم، كان يقين محمد الثاني بأن هذه الطبقة وتمركزها يفوضها أن تسيطر على وزارة التنفيذ لا وزارة التفويض، وتلك السياسة التي كانوا عليها، فوجب على السلطان الخروج من المأزق السياسي إلى التوجه الديني، والذي لن يعترض عليه أحد بأي حال.
وأصبحت طبقة القولار أداة في يد السلطان ليبلغ بها أهدافه بكل خضوع، وأدت تلك السياسة إلى توفير مخارج لتغيير شروط اختيار القولار، وأن تتولى الدولة مواقع سياسية يتيح لها الانفتاح على أدوار سياسية جديدة، وتتسع كإمبراطورية بتحولات تبرز من خلال مبانيها ومراكز السلطة.
وبتتبع الكيفية التي أصبح عليها منصب شيخ الإسلام، رغم التداخلات السياسية فيه، تم تحديد الشروط والمعايير الإدارية للإسهام في سياسة الدولة.
وأين الدور الديني؟
لقد كان توجه محمد الفاتح إلى اتجاه جديد في السلطة لبناء قوة ذاتية لمؤسسة بيروقراطية فعالة، تخضع لأنظمة دقيقة تعلن أنها مستندة إلى قواعد من الدين الإسلامي – الماتريدية -.
لقد كان الشيخ آق شمس الدين، معلماً ومربياً ومرشداً ومصلحاً اجتماعياً، أشرف على تربية وتعليم السلطان محمد الثاني، فجعل منه قائداً عظيماً ودفعه نحو فتح القسطنطينية، ثم شارك معه في الجهاد ووقف إلى جانبه يساعده ويدعم موقفه إلى أن تم الفتح، وبسبب هذه الجهود استحق الشيخ آق شمس الدين أن يلقبه المؤرخون بلقب “الفاتح المعنوي للقسطنطينية”.
ومن هو شيخ الإسلام في عهد الفاتح؟
شمس الدين أحمد بن موسى الرومي الخيالي الحنفي، المتوفى عام 870هـ، عالم وفقيه أصولي حنفي، كان مدرساً بالمدرسة السلطانية في بروسة (بتركيا) ثم في أزنيق. وتوفي بها. كان مدرساً بالمدرسة السلطانية في بروسة (بتركيا) ثم في أزنيق. وتوفي بها. له كتب منها (حاشية على شرح السعد على العقائد النسفية – ط) و (حواشٍ على أوائل شرح التجريد للطوسي).