الأندلسيون

هُزموا في إسطنبول قبل أن يُهزموا في غرناطة

لقد كان الأندلسيون في ذهابهم وإيابهم إلى السلطنة العثمانية، كالكرام على موائد اللئام، يبذلون التذلل والانكسار ويحكون مآسيهم، ولكن لا مجيب، وإذا كانت هناك من إجابة، فهي محدودة أو غير مؤثرة، فقد تناوب الأندلسيون على بلاط السلاطين العثمانيين، ولكن أحدًا منهم لم يتبنَّ القضية الأندلسية، لقد كانت العلاقات مع الأوروبيين هي الأولى وهي الأهم عند السلاطين.

الشعر أبكى الأندلسيين ولم يُحرك العثمانيين.

تقول الروايات التاريخية إن النشاط العسكري للسلطان بايزيد الثاني لدعم الأندلسيين لم يتعدَّ بضع سفن لإجلاء من يريد منهم إلى شمال إفريقيا، إذ لم تكن استراتيجية العثمانيين إبقاء العرب الأندلسيين في بلادهم الأندلس، وكأنهم لا يريدون مسلمين أوروبيين من أصلٍ عربي ينافسون وجودهم في أوروبا.

الباحثة إلهام يوسف في بحثها “النشاط العسكري في الدولة العثمانية في عهد السلطان بايزيد الثاني منذ العام 887 هـ، 1482م تقول: “تسلّم السلطان بايزيد العديد من رسائل الاستنجاد من مسلمي الأندلس، فقد طلب ملك غرناطة أبو عبد الله الحادي عشر، المساعدة من الدولة العثمانية، وعرض السفراء الذين أرسلهم ملك غرناطة على السلطان بايزيد الثاني الوضع في الأندلس، ليرسل بايزيد الثاني دعمًا بسيطًا أسفر عن نجاح محدود – أُجلِيَت بموجبه السفن العثمانية 300 ألف عربي أندلسي إلى شمال إفريقيا، بينما كان الطلب الأندلسي مساعدتهم في البقاء في بلادهم، لا إجلاءهم”.

وتقرّ إلهام يوسف في بحثها أن إخفاق الدولة العثمانية في تقديم المساعدة اللازمة لتحسين أوضاع المسلمين – في الأندلس – كان سببًا في تطوير البحرية العثمانية لأهداف عثمانية صرفة، ولعل القصيدة التي أرسلها الأندلسيون رفقة السفراء المبتعثين إليهم، تحكي الواقع المؤلم والآمال الكبيرة التي وضعها الأندلسيون في أكبر دولة إسلامية حينها، لعلها تنقذهم من مصير محتوم، لكنهم هُزموا في إسطنبول قبل أن تهزمهم جيوش الإسبان. قصيدة تحمل كل معاني الخضوع والتذلل لمن لا يستحقها، فقد خذلهم، وخذل ملايين المسلمين من ورائهم ومن بعدهم، وبسببه ضاعت الأندلس إلى الأبد.

تنقل المصادر رسالة الاستغاثة التي أرسلها الأندلسيون إلى السلطان بايزيد الثاني سنة (1501) بعد استيلاء الإسبان على المدن الأندلسية، ما نصه بعد سطر الافتتاح: “الحضرة العلمية، وصَل الله سعادتها وأعلى كلمتها ومهّد أقطارها وأعزّ أنصارها وأذلّ عُداتها، حضرة مولانا وعُمدة ديننا ودنيانا، السلطان الملك الناصر، ناصر الدين والدنيا، سلطان الإسلام والمسلمين، قامع أعداء الله الكافرين، كهف الإسلام وناصر دين نبينا محمَّد صلى الله عليه وسلم، محيي العدل ومنصف المظلوم ممن ظُلم، ملك العرب والعجم والترك والديلم، ظلّ الله في أرضه، القائم بسنته وفرضه، ملك البرين وسلطان البحرين، حامي الذمار وقامع الكفار، مولانا وعُمدتنا مولانا بايزيد، لا زال ملكه موفور الأنصار، مخلد المآثر والآثار، مشهور المعالي والفخار، مستأثرًا من الحسنات بما يضاعف الله الأجر الجزيل في الدار الآخرة والثناء الجميل، والنصر في هذه الدار، ولا برِحت عزماته العليّة مختصة بفضائل الجهاد، مجردة من أعداء الدين من بأسها ما يروي صدور السمر والصفاح وألسنة السلاح، باذلة نفائس الذخائر في المواطن التي تألف فيها الأخيار مفارقة الأرواح للأجساد، سالكة سبيل السابقين الفائزين برضا الله وطاعته يوم يقوم الأشهاد”. ثم أرفقوها بقصيدة تشرح آمالهم ومآسيهم، نقلها جمال يحياوي، في كتاب سقوط غرناطة ومأساة الأندلسيين، لشهاب الدين أحمد بن محمد المقري التلمساني.

الرسالة محفوظة في المكتبة الوطنية بالجزائر.

سلام كريم دائم متجـــــــــــــــــــدد
أخص به مولاي خير خليفـــــــــــة
سلام على مولاي ذي المجد والعلا
ومن ألبس الكفار ثوب المذلــــــة
سلام على من وسّع الله ملكـــــــــه
وأيّده بالنصر في كل وجهـــــــــة
سلام على مولاي من دار ملكـــــــه
قسنطينة أكرم بها من مدينـــــــة
سلام على من زيّن الله ملكـــــــــه
بجند وأتراك من أهل الرعايـــــــة
سلام عليكم شرف الله قدركـــــــــم
وزادكم ملكًا على كل ملــــــــــة
سلام على القاضي ومن كان مقلـه
من العلماء الأكرمين الأجلــــــــــة
سلام على أهل الديانة والتقـــــى
ومن كان ذا رأي من أهل المشورة
سلام عليكم من عبيد تخلفـــــــــوا
بأندلس بالمغرب في أرض غربــــة
أحاط بهم بحر من الروم زاخــــــــــر
وبحر عميق ذو ظلام ولُجـــــــــــة
سلام عليكم من عبيد أصابهـــــــم
مصاب عظيم يا لها من مصيبــــــــة
سلام عليكم من شيوخ تمزقــــــت
شيوبهم بالنتف من بعد عــــــــــزة
سلام عليكم من وجوه تكشفــــت
على جملة الأعلاج من بعد ستـــرة
سلام عليكم من بنات عوائـــــــــق
يسوقهن اللباط قهرًا لخلوة

وبعد ما سبق من التبجيل والخضوع، بدأوا بشرح مأساتهم:

وأُحرِق ما كان لنا من مصاحــــــــف
وخُلطت بالزبل أو بالنحاســـــــــــة
وكل كتاب كان في أمر ديننـــــــــــــا
ففي النار ألقوه بهزء وحقــــــــــرة
ولم يتركوا فيها كتابًا لمسلـــــــــم
ولا مصحفًا يُتلى به للقراءــــــــة
ومن صام أو صلى ويُعلَم حالـــــــــه
ففي النار يُلقونه على كل حالـــــــة
ومن لم يجيء منا لموضع كفرهـــــم
يُعاقبه اللباط شر العقوبـــــــــــــة
ويـلـطم خديـه ويأخـذ مالـــــــــــه
ويجعله في السجن في سوء حالـة
وفي رمضان يُفسدون صيامنــــــــا
بأكل وشرب مرة بعد مــــــــــــــرة
وقد أمرونا أن نسب نبينــــــــــــا
ولا نذكرنه في رخاء وشـــــــــــدة
وقد سمعوا قومًا يُغنون باسمـــــــــه
فأدركهم منهم أليم المضــــــــــرة
وعاقبهم حكامهم وولاتُهـــــــــــم
بضرب وتغريم وسجن وذلـــــــــة
ومن جاءه الموت ولم يحضر الــــــذي
يذكرهم، لم يدفنوه بحيلـــــــــــة
ويُترك في زبل طريحًا مجـــــــــدلًا
كمثل حمار ميت أو بهيمـــــــــــة
إلى غير هذا من أمور كثيـــــــــــرة
قباح وأفعال غزار رديـــــــــــــة
وقد بُدلت أسماؤنا وتحوّلــــــــــت
بأسماء أعلاج من أهل الغبـــــــاوة
وآهـًا على أبنائنا وبناتنـــــــــــــــــا
يروحون للباط في كل غـــــــــدوة
يعلمهم كفرًا وزورًا وفريـــــــــــــــــة
ولا يقدرون أن يمنعوهم بحيلـــــــة

ثم يستغيث الشاعر بسلطان الدولة العثمانية، ويعقد آماله عليه:

فها نحن يا مولاي نشكو إليكم
فهذا الذي نلناه من شر فرقة
عسى ديننا يبقى لنا وصلاتنا
كما عاهدونا قبل نقض العزيمة

إلا أن كل ذلك لم يؤثر في السلطان بايزيد، ولم يُحرّك فيه نخوة تحتضنهم وتنقذهم، لقد ضاعت الأندلس بسبب إهمال العثمانيين وتفضيلهم مصالحهم الضيقة على مصالح المسلمين، وهذا ليس تهمة، فقد كانوا الدولة الأقوى حينها، ولذلك التجأ إليهم عرب الأندلس الذين لم يجدوا الأخوة التي توقّعوها ولا النجدة التي تمنّوها.

  1. أحمد التلمساني، زهار الرياض في أخبار عياض، رسالة محفوظة في المكتبة الوطنية في الجزائر.

 

  1. إلهام يوسف، “النشاط العسكري في الدولة العثمانية في عهد السمطان بايزيد الثاني 886-918هـ/1481-1512م”، مجلة تشرين للبحوث والدراسات العلمية، مج.39، ع.3 (2017).

 

  1. بسام البطوش، “موقف الدولة العثمانية من استغاثات الأندلسيين – الموريسكيين – ما بين سنتي 1451-1616م”، مجلة الزرقاء للبحوث والدراسات الإنسانية، مج.14، ع.1 (2014).

العثمانيون

في الوقت الذي تجاهلوا فيه الأندلسيين فتحوا أحضانهم لليهود

حينما قربت نهاية دولة العرب المسلمين في الأندلس؛ أرسل أهالي غرناطة رسالة استغاثة إلى سلاطين العثمانيين ومنهم محمد الفاتح، يطلبون إنقاذهم من بطش الإسبان. ولم يستجب السلطان العثماني للنداء، في ظلّ الأخطار الجسيمة التي حاقت بالدولة، والمتمثلة بمواجهة تحالف صليبي شديد. بعد ذلك، راسل مسلمو الأندلس السلطان بايزيد الثاني الذي خلف أباه الفاتح، وقد ورد نص تلك الرسالة المؤثرة في كتاب “أزهار الرياض في أخبار عياض”، لشهاب الدين أحمد بن محمد المقري التلمساني. ولكن دون جدوى.

لم يكن أهل الأندلس يحققون للعثمانيين المكاسب كما أصحاب رؤوس الأموال اليهود.

ومع ذلك قدّم ممجّدو الدولة العثمانية أسباب صعوبة إنقاذ المسلمين، ومنها أن الدولة العثمانية كانت في نزاع مع المماليك، بسبب رغبة السلطان المملوكي بضمّ منطقة “جوقورأوه” التابعة للعثمانيين، إلى الأراضي السورية التابعة للمماليك، وكانت التوترات قد بلغت أوجها، إلى حد تحرّك الجيوش إلى تلك المنطقة. بمعنى أنهم تحركوا للشرق ولا إمكانية أن يتجه جيش آخر للغرب. كما قدموا عذرًا آخر متمثلاً بأن الصفويين في فارس كان خطرهم يحيق بالعثمانيين.  

والحقيقة أن جموع المهاجرين ومن خرجوا مضطهدين، كانوا في حاجة إلى تصريح أو حتى تلميح بدعوتهم للقدوم إلى أراضي الدولة العثمانية لمساعدتهم عن طريق البحر، وكان باستطاعتهم حمل المهاجرين وإنقاذهم. أما الخطر الصفوي فيقول عنه نبيل عبدالحي رضوان، في كتابه بعنوان “جهود العثمانيين لإنقاذ الأندلس واسترداده في مطلع العصر الحديث”: “إن ظهور الصفويين في المشرق كان عائقًا أمام تقدم العثمانيين في الغرب، لأن مجهود الدولة كان موزعًا في الشرق والغرب، وبالتالي يقلّل من قوة الهجوم تجاه التقدم في وسط أوروبا”. والسؤال الكبير؛
من كان الأولى؟ ولماذا تشتّت الدولة جهودها، وهناك ألوف مؤلّفة من البشر يستغيثون؟ أم أنه تم التنازل لإرضاء الغرب ليتم في المقابل الرضا عنهم واعتبارهم من دول الغرب الأوروبي؟.

كما راح مؤرخون آخرون يبحثون للعثمانيين عن أعذار، منها المشكلة الداخلية التي واجهها السلطان بايزيد الثاني بصراعه مع أخيه الأمير جم حول العرش، وما ترتّب عليها من توتر مع المماليك الذين قاموا باحتواء الأمير المتمرّد. وأن بايزيد واجه تحالفًا صليبيًا جديدًا من البابا يوليوس الثاني، وفرنسا، والمجر، والبندقية، ما حدا بالدولة إلى تركيز جهودها على الخطر القادم من أوروبا.

المحاولات التي قام بها سلاطين العثمانيين تجاه الأندلس لم تكن من موقف صارم وثابت، مثلما يدّعي بعض المؤرخين، كصرامتهم تجاه الصفويين. فما قام ب كمال رئيس بضرب سواحل جزر جربة ومالطا وصقلية وساردينيا وكورسيكا، ثم سواحل إسبانيا، وهدم العديد من القلاع والحصون المشرفة على البحر في هذه السواحل، لم يكن ينوي أن يبقى طويلًا، لأن الحرب البحرية لا تكفي للاستيلاء على المدن، فلا بدّ من مشاركة القوات البرية التي تتوغل في الداخل.

لم يمل الأندلسيون من تجاهل العثمانيين؛ فقد أرسلوا استغاثةً إلى السلطان سليم الأول، وابنه سليمان القانوني، ولم تكن كل تلك الاستغاثات تثير الغيرة لدى السلاطين العثمانيين باتخاذ موقفٍ حاسم من قضية الأندلسيين، إنما اكتفوا بالمساهمة بنقل مسلمي الأندلس إلى الشمال الأفريقي، من دون أن يكون لديهم نية في الإسهام الفعلي في إنقائهم، والعمل العسكري الحقيقي، الذي كانت تستخدمه الدولة العثمانية في مناطق حدودها.

وفي الوقت الذي كان يسعى فيه العثمانيون إلى نقل مسلمي الأندلس للشمال الأفريقي؛ احتضنوا يهود الأندلس ونقلوهم إلى بلادهم وعاصمتهم إسطنبول، لذلك يقول أول رئيس لدولة الاحتلال الصهيونية حاييم وايزمان: “العالم الإسلامي يعامل اليهود بقدر كبير من التسامح، فقد فتحت الإمبراطورية العثمانية أبوابها لليهود عندما طُردوا من إسبانيا، ويجب على اليهود ألا ينسوا ذلك”.

ويقول المستشرق برنارد لويس في كتابه إسطنبول وحضارة الخلافة الإسلامية: “ازداد عدد اليهود في إسطنبول منذ نهاية القرن الـ15 بصورة خاصة، إذ جاء الكثيرون منهم من إسبانيا والبرتغال والبلاد الأوروبية الأخرى، باحثين عن مكان للّجوء إزاء اضطهاد المسيحيين لهم، إلى حكم السلاطين العثمانيين المتسامح”، ويضيف “تمتع اليهود والمسيحيون على السواء بحرية العبادة في إسطنبول، في ظل واقع التاريخ الإسلامي والعثماني بهذا الخصوص، ومُنحوا قدرًا كبيرًا من الحرية القومية”. ويفتخر كثير من معلقي الأخبار التاريخية حول العثمانيين بأن تلك شهادة من مشاهير السياسة والتاريخ، تؤكد حقيقة تسامح العثمانيين مع غير المسلمين ومن بينهم اليهود، في الوقت الذي كانت تُغلق في وجوههم أبواب أوروبا.

بايزيد الثاني الذي تجاهل الأندلسيين، أصدر أوامره إلى حكّام أقاليمه بعدم رفض اليهود أو وضع عقبات أمامهم، فتدفّقوا على أراضي الدولة العثمانية، واستقرّوا في العديد من المدن الرئيسية مثل إسطنبول، وأدرنة، وإزمير، وسلانيك.

  1. أحمد آق كوندوز وآخر، الدولة العثمانية المجهولة (إسطنبول: وقف البحوث العثمانية ، 2014).

 

  1. عبدالعزيز الشناوي، الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها (القاهرة: مكتبة الأنجلو، 1992).

 

  1. نبيل عبدالحي رضوان، جهود العثمانيين لإنقاذ الأندلس واسترداده في مطلع العصر الحديث (مكة المكرمة: مكتبة الطالب الجامعي، 1988).
تشغيل الفيديو