
سليم الأول
من مرج دابق إلى المشانق: بداية الاحتلال العثماني للعرب
يبقى سليم الأول علامة سوداء في تاريخ العلاقة بين العرب والعثمانيين، فقد سبغت صفاته الشخصية علاقته مع جيرانه العرب، فهو أول من حرّك الجيوش ضد العرب المسلمين. صحيح أن أسلافه خذلوا العرب الأندلسيين، لكن سليم الأول فتح باب الحرب والاحتلال والاستبداد ضد العرب، منذ أن سحب جيشه من غرب السلطنة إلى جنوبها باتجاه الديار العربية.
السلطان الذي قتل والده… وفتح أبواب الجحيم للعرب.

إنها بلا شك دلالة على غياب الرؤية الاستراتيجية عنده، وتحويله للرعب من حلفاء إلى أعداء، ومن شعوب حليفة إلى شعوب محتلة. لكن ذلك لم يأتِ مصادفة، فقد كان سليم الأول غدارًا دمويًا، فقد ذبح إخوته جميعًا، ثم خلع والده وقتله وهو في طريقه إلى المنفى. كل ذلك يعطينا تصورًا بسيطًا عن تلك الشخصية التي فتحت على العرب شرًّا استمر أكثر من أربعة قرون.
يقول فريد صلاح الهاشمي في كتابه تركيا في ضوء الحقائق: الأتاتوركية: “كان سليم الأول حاكمًا مستبدًّا بالحكم، سفّاكًا للدماء… أخذ الفتوى من مفتي الديار التركية لتطهير البلاد من بعض المكونات الاجتماعية تحت مسمى تطهير البلاد”. لقد بدأت صفات العنف ظاهرة في علاقاته بوالده وإخوته، الذين لم يُبقِ منهم أحدًا وصفّاهم جميعًا، حتى والده الذي قبل بالنفي بعدما خَلَعه من سلطانه، قتله وهو في طريقه إلى المنفى. تلك الصفات العبثية، انتقلت من حياته السرية التي انغمس فيها، كما بعض السلاطين.
ويصف الدكتور محمد عبد الستار البدري، في منشور له على صحيفة الشرق الأوسط، السلطان “سليم الأول”: “شخصية غير خلافية، إذ إنه كان فظًا، غليظ القلب، دموي الطابع، سادي التوجه، لا يكترث كثيرًا بمن حوله أو بأسرته، وكان يحكم بالحديد والدم. ويذكر المؤرخون أنه كان سيئ الظن بمن حوله، وهو ما جعله يقتل سبعة من رؤساء وزرائه. ويقال في روايات التاريخ إن أحد رؤساء وزرائه قال له إنه يخشى أن يقوم بقطع رقبته دون إنذار سابق، فضحك سليم وقال له: “أنا فعلاً قررت أن أقطع رقبتك، ولكن ما يحول دون ذلك أنني لم أجد من يحل محلك بعد”.
لم يكن سلوك سليم الأول الاستبدادي إلا نموذجًا لما سارت عليه سياسة القتل في القصور السلطانية، فكل سلطان لا يأتي إلا على دماء والده وإخوته ووزرائه. لقد كان للمؤامرات والقتل بالسيف والإغراق أو السجن المؤبد داخل محابس خاصة، دوره في الحكم العثماني، لكنه حكمٌ ملطخ بالدماء والآلام. تلك الآلام لم تقف على أبواب القصور، لكنها ارتحلت مع الجيوش الإنكشارية التي سيرها سليم الأول ضد العرب في سعيه لاحتلال بلادهم، وهو ما حصل فعليًا إثر معركة مرج دابق، ثم مصر والجزيرة العربية وشمال إفريقيا لاحقًا.
سليم الأول.. الإدارة بالدماء:
ليس غريبًا أن تكون إدارة سليم الأول مغموسة بالدماء، فقد بدأ رحلته للحكم بقتل إخوته، ووالده السلطان بايزيد، مرورًا بتصفية وقتل مكونات اجتماعية في السلطنة، وأخيرًا الحكم الاستبدادي القائم على القتل والترويع في البلاد العربية التي احتلها، مقيمًا المشانق، ومطلقًا يد جيشه في كل مكان قتلًا وسحلًا. وتشهد الشام والقاهرة على تلك الدماء التي سالت دون مبرر، بسبب جيش سليم الأول الذي لم تردعه أخوة الإسلام ولا الأخلاق في استباحة الدماء والبيوت والأعراض.
يقول الدكتور أشرف مؤنس، رئيس قسم التاريخ بكلية التربية جامعة عين شمس المصرية: “لقد كان مفهوم العثمانيين للدولة – بعد احتلال سليم الأول للبلاد العربية – مقتصرًا على الدفاع عن الولايات والأمن الداخلي وجباية الضرائب، حتى المرور بالطرق والشوارع فرضوا عليه ضريبة كانت تسمى “الحلوان”، وفرضوا ضرائب أخرى لا تُحصى ولا تُعد، منها ضريبة “الميري” التي كانت تُحصّل بنسبة 22% لحساب السلطان، وضريبة “الكشوفية” وقدرها 16%. وكان “الملتزم”، وهو شخص يتم تعيينه لتحصيل الضرائب، يقوم بدفع هذه الضرائب للحكومة مقدمًا، ثم يقوم بتحصيلها بأضعاف قيمتها من الأهالي، مما أدى لفقر الشعوب وتزايد الجهل والمرض ونقص الخدمات وشح الموارد”.
لم يكن سليم الأول حاكمًا مستبدًّا فقط، بل كان له وجه آخر منغمس في الملذّات، إذ تشير بعض المصادر التركية إلى صورة موجودة للسلطان سليم الأول في متحف “طوپ قپو” في إسطنبول تحت رقم 66/17، رسمها أحد فناني “المجر”، ويظهر فيها السلطان سليم وهو يضع قرطًا متدليًا من أذنه، وهي إحدى الأدلة على عدم التزام سليم الأول بمكانته كسلطان، ولا احترامه للدين الإسلامي، وتشير إلى انغماسه في الملذات.


- أحمد كوندز وسعيد أوزتوك، الدولة العثمانية المجهولة (إسطنبول: وقف البحوث العثمانية، 2008).
- فاتح آقجه، السلطان سليم الأول (القاهرة: دار النيل، 2000).
- فريد الهاشمي، تركيا في ضوء الحقائق: الأتَاتُورْكِيَّة (إسطنبول: دار العبر، 2014).


ألقاب السلطان العثماني:
بين الهيبة المتخيّلة والشرعية المفقودة
اشتهر سلاطين بني عثمان باتخاذ ألقاب تشريفية مطوّلة، تُحاكي حالة العظمة التي أرادوا الظهور بها أمام شعوبهم والعالم، مستلهمين ذلك من إرث الفرس والتتر في إضفاء قداسة رمزية على الحكم. ويُبرز المؤرخ إبراهيم بك حليم في كتابه التحفة الحليمية مدى هذا التكلّف، مسجّلًا أسماء السلاطين بتفصيل يشي بهوس الانتماء والتضخيم، كما في نسب عثمان الأول: “السلطان عثمان خان الغازي بن ساوجي بك بن أرطغرل بك بن سليمان شاه بك بن فيا ألب”، وهو نسب يتقاطع مع الإرث الفارسي الآسيوي من حيث التمديد والتقديس.
تلقبوا بأمراء الحج ولم يحجوا.

ويُعلّق حليم بأن النسب بعد “فيا ألب” غير موثوق، ثم يذكر أن ألقابهم شملت لقب “قابي خان”، ومعناه: الحاكم أو السيد، وهو تعبير ذو جذر إيراني (hva-kama) يعني “الحاكم الذاتي”. وبذلك، تكرّست في الدولة العثمانية ثقافة الصورة الرمزية للسلطان، حتى غدا التخاطب الرسمي أو الشعبي مع السلطان يستلزم مقدمات من الألقاب التشويقية التي تمهّد لهالة الهيبة والقداسة.
وفي محاولة للربط التاريخي بين النسب والقدر، يذكر حليم أن ولادة عثمان الأول تزامنت مع سقوط الخلافة العباسية، وكأنها إشارة ربانية – على حد تعبيره – لحلول الأسرة العثمانية محلها، رغم غياب التوثيق لتاريخ الميلاد.
من مراد الأول إلى سليم الأول، تتضاعف الألقاب التي يحملها كل سلطان لتغدو جزءًا من أدائه السياسي والديني، فنقرأ مثلًا:
- مراد الأول: الملك العادل، غياث الدنيا والدين، أبو الفتح.
- بايزيد الأول: يلدرم (الصاعقة)، صاعقة الإسلام، جلال الدين.
- مراد الثاني: خوجة سلطان، غازي، سياج الإسلام.
- محمد الفاتح: صاحب النبوءة، أبو المعالي، الفاتح المنتظر.
- بايزيد الثاني: الملك الولي، ضياء الدين، عون الغزاة.
- سليم الأول: ياووز (القاطع)، ظهير الدين، غياث السلطنة.
هذه الألقاب ليست مجرد تكريم، بل هي بناء رمزي يعكس رغبة العثمانيين في توطيد شرعيتهم، وتقديم أنفسهم حماةً للإسلام، في ظل تضخيم دعائي يفوق الأثر الحقيقي لكثير منهم. فمثلًا، رغم ألقاب بايزيد الثاني المتدينة، انتهت حياته في دروشة وعزلة، وسليم الأول، رغم ألقابه الإمبراطورية، كان ناقلًا للحرفيين من مصر والشام إلى إسطنبول، في ما يُشبه السلب الثقافي.
أما سليمان القانوني، فإلى جانب التشريعات، حمل ألقابًا مثل “المحتشم العظيم” و”الشهيد”، رغم أن سيرته حملت تناقضات كثيرة داخليًا وخارجيًا. وأحمد الأول لُقّب بـ “صاحب البخت”، بينما نُعت عبد العزيز بـ “بخت سيز”، أي قليل الحظ. هذه التناقضات تُظهر كيف أن الألقاب كانت منفصلة عن الواقع.
ويُشار إلى أن بعض السلاطين، كـ لاله دوري پادشاه، اختاروا التقاعد في هدوء، كما قال عند تنازله عن الحكم: “إني لا أحب نزول قطرة من الدم في نظير ما بقي لي من الحياة”، بعد أن أنهكته الفتن والمؤامرات.
ولم يكن ذلك كله إلا جزءًا من تراث سلطاني يقوم على التهويل والتخويف. حتى عبدالحميد الثاني، الذي وصل الحكم بعد إقصاء أخيه مراد، استُخدمت نفس تقاليد المجد السلطاني لإعلانه، مع تجاهل متعمّد لأي نقد. يقول صاحب التحفة الحليمية: “جلس للسلطنة الوارث الشرعي (شوكتلو مهابتلو) ولي النعمة السلطان عبدالحميد خان الثاني”. أما اللقب الكامل للسلاطين العثمانيين خلال أوج مجدهم، فهو أطول ألقاب الملوك في التاريخ تقريبًا، ويتضمن عبارات مثل:
- ظلّ الله في الأرضين
- سلطان البحرين
- أمير الحج (رغم عدم قيام أيٍّ منهم بالحج)
- قيصر الروم
ويتبع ذلك قائمة لا تنتهي من المدن والبلدان التي ادّعوا السيادة عليها، من القسطنطينية ودمشق إلى بلغراد والبوسنة وكُردستان وتونس. كل ذلك يُظهر كيف أن الألقاب في الدولة العثمانية لم تكن مجرد شرف، بل وسيلة سياسية ودينية لتكريس حكم يفتقر أحيانًا إلى الفعل، لكنه يفيض في الوصف.


- إبراهيم بك حليم، التحفة الحليمية في تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: نجوى عباس (القاهرة: مؤسسة المختار للنشر والتوزيع، 2004).
- عبدالعزيز الشناوي، الدولة العثمانية دولة مفترى عليها (القاهرة: مكتبة الأنجلو، 1989).
- محمد فريد بك، تاريخ الدولة العليّة العثمانية، تحقيق: إحسان حقي، ط10 (القاهرة: دار النفائس، 2006).