
بمزاج الحرملك وأمر السلطان
لماذا اغتيل ولي العهد مصطفى ابن القانوني؟
لم يكن منصب الصدر الأعظم في الدولة العثمانية مجرد مرتبة إدارية عليا، بل كان يتجاوز في سلطته معظم مؤسسات الدولة، باستثناء موقع السلطان ذاته. ومع ذلك، ظل هذا المنصب محفوفًا بالمخاطر، لا بسبب التحديات السياسية أو العسكرية، بل لأن صاحبه كان دومًا مهددًا بـ”مزاج الحرملك” وخنجر السلطان.
لم تكن المؤامرات مقصورة على الصدور العظام في قصور السلاطين العثمانيين، فقد كان من ضحايا المؤامرات أمراء عثمانيون.

في قلب قصر توبكابي، حيث تدار الدولة من خلف الجدران المزخرفة والستائر المطرزة، كانت سلطة النساء – لا سيما المحظيات والسلطانات – تتغلغل في مفاصل القرار، وتعيد تشكيل هرم السلطة بحسب مصالحها وتحالفاتها. هنا، لم تعد الكفاءة معيارًا كافيًا للصعود، بل بات الرضا النسائي، أو على الأقل الحياد تجاه الأجنحة المتصارعة داخل الحرملك، شرطًا غير معلن للاستمرار في المنصب. فقد بلغ التدخل النسائي في جهاز الحكم حدًا جعل من الصدر الأعظم – وهو الوزير الأول – لعبة بين يدي السلطانات، فما أن يميل إلى جناح دون آخر، حتى تبدأ خيوط المؤامرة تُنسج من خلف الستار. لا وقار المنصب، ولا عراقة الرجل، ولا عهوده مع السلطان، ولا حتى قرابته من بيت الحكم، كانت لتمنحه حصانة من مؤامرة صغيرة تُدبَّر في جلسة خافتة بين جارية و”سلطانة” ذات نفوذ.
أحد أبرز الأمثلة على هذا المصير المأساوي كان إبراهيم باشا، الصدر الأعظم الذي رافق السلطان سليمان القانوني منذ شبابه، وصار لاحقًا صهره بزواجه من أخته السلطانة خديجة. ورغم المكانة الفريدة التي حظي بها، والتي بلغت حد القول بأنه “قرين السلطان”، إلا أنه سقط ضحية تحالفات الحرملك، حين اصطدم طموحه المتعاظم بنفوذ السلطانة خُرَّم (روكسلانة).
كانت خُرَّم جارية أوكرانية الأصل، ثم أصبحت زوجة السلطان وأم أولاده، واستطاعت أن تتحول إلى مركز ثقلي داخل الحرملك، مستندة إلى دهاء سياسي فريد، وجرأة في استثمار الضعف العاطفي لدى السلطان. لقد رأت في إبراهيم باشا عقبة أمام طموحاتها لتعيين ابنها وليًا للعهد، فخاضت ضده حربًا صامتة، لا بالسيف بل بالهمسات والوشايات، حتى اقتنعت أن عزله وحده لا يكفي، فطلبت من السلطان قتله. وفي إحدى الليالي، وهو يستعد للعشاء في القصر، صدر الأمر بخنقه. لم تُعرض عليه تهم، ولم تُمنح له محاكمة، فقط خُنق ومات في صمت، كما يموت رجال الظلّ حين تُخفيهم الدولة كي تبقى وجهًا نقيًّا للعامة.
أما من خلفه، رستم باشا، فكان الوجه الآخر للعبة الحرملك. زوّجته خُرَّم من ابنتها محرمة، وعيّنته صدرًا أعظم، ليكون يدها في الإدارة، ولسانها في الاجتماعات. وهكذا، تحول المنصب الأرفع في الدولة إلى امتداد لإرادة سلطانة، وليس للدولة. لقد تحوّل الصدر الأعظم من مدير للسلطنة إلى أداة لمعارك العائلة السلطانية.
رستم بدوره استغل هذه الحماية، فراح يتوسع في النفوذ والثروة، واستولى على قرى وأراضٍ واسعة، فيما غضّ السلطان الطرف، إرضاءً لخُرَّم. ولم يكن الفساد هو أخطر ما فعله، بل كانت مشاركته في المكيدة التي قادت إلى قتل ولي العهد، الأمير مصطفى، نجل السلطان من زوجة أخرى، والذي اعتبره الناس الأجدر بالخلافة، لكنه سقط ضحية لاتهامات ملفقة بالتمرد، ليُخنق أيضًا، تمامًا كإبراهيم باشا.
هذه الوقائع ليست شذوذًا في التاريخ العثماني، بل مظهرًا متكررًا من ظاهرة أوسع تُعرف بـ”سلطة الحرملك”، التي امتدت لتشمل أمهات السلاطين وزوجاتهم ومحظياتهم. ومع دخول القرن السابع عشر، أصبحن السلطانات أحيانًا يعيِّنّ الصدر الأعظم ويعزلنه، كما لو أن السلطنة صارت تُدار من القسم الداخلي، لا من قاعة الديوان.
لقد ساهم هذا التدخل في إضعاف هيبة المنصب، وحوّله من ركيزة سياسية إلى رهينة عاطفية. بل إن كثيرًا من الصدور العظام فضلوا الابتعاد أو الاستقالة أو التظاهر بالولاء المطلق، خشية أن يُفسَّر استقلالهم على أنه تمرّد.
يُقدِّر بعض المؤرخين عدد الصدور العظام الذين أُعدموا على يد السلاطين – دون محاكمة – بنحو عشرين صدرًا أعظمًا، ما يعادل نحو 10% من شاغلي المنصب عبر خمسة قرون. وفي كثير من الحالات، لم تكن الأسباب سياسية بحتة، بل صراعات داخل الحرملك، أو غيرة، أو تحريض خفي.
لقد أنتجت هذه البيئة ظاهرةً مزمنة من عدم الاستقرار الإداري والسياسي، حيث يتغير الصدر الأعظم بسرعة، وتُحسم الصراعات بوسائل دموية لا تقوم على المحاسبة أو القانون، بل على المزاج السلطاني والضغط الحرمي. في النهاية، كانت الدولة العثمانية، رغم قوتها الظاهرية، تفتك بأركانها من الداخل، حيث تحوّلت مؤسسات الحكم إلى ساحة لصراع داخلي تتداخل فيه الغيرة، والمصالح، والخرافات، والسحر، والولاء، والموت. وهكذا، ظل منصب الصدر الأعظم منصبًا ساميًا لا يرفعه التاريخ، بل يدفنه غالبًا في صمت… وبلا محاكمة.


- إبراهيم حليم بك، التحفة الحليمية في تاريخ الدولة العلية (بيروت: مؤسسة الكتب الثقافية، 1988).
- حسين حافظ، حريم السلطان… القصة الحقيقية (5): انهيار الحلف الثلاثي في الحرملك، صحيفة الجريدة على الرابط: https://www.aljarida.com/articles/1462271041157988200
- عبدالعزيز الشناوي، الدولة العثمانية دولة اسلامية مفترى عليها (القاهرة: مكتبة الأنجلو، 1980).
- محمد فريد بك، تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي (بيروت: دار النفائس، 1981).


مدحت باشا:
الإصلاح الذي خُنق بِحبال السلطان
كان الشك سيف العدل عند العثمانيين، لكنه كثيرًا ما كان يُشهر ليكون سيف انتقام. ففي منتصف القرن التاسع عشر، كانت الدولة العثمانية تتجه نحو الانهيار؛ تتوالى الأزمات الاقتصادية، ويتردد صدى الثورات في البلقان، وتتفكك أوصال الإدارة، وسط سلطان ضعيف ومستشارين أقوياء. في خضم هذا الاضطراب، برز مدحت باشا بوصفه أحد أعمدة الإصلاح، لكنه كان أيضًا هدفًا لنظام يستبدل المحاكمة بالاغتيال.
كيف أطاح السلطان عبدالحميد الثاني برجل الدستور في ليلة ظلماء؟.

غادر مدحت الآستانة بعد الاضطرابات في عهد السلطان عبدالعزيز، لكنه عاد لاحقًا ليتولى وزارة العدلية ورئاسة مجلس الشورى، إلا أنه اصطدم بفساد الدولة وتخبطها. كتب في شوال 1291هـ/1874م إلى سكرتير السلطان محذرًا من كارثة قادمة، ثم اعتزل العمل السياسي، لكنه بقي يرقب المشهد عن كثب.
الأزمات تعاقبت؛ الصدور العظام يتبدلون كأوراق الخريف، ومحمد رشدي باشا وأسعد باشا لم يقدما حلًا، بل ساءت الأمور حتى هدّد الإفلاس الدولة، وتدخلت القوى الأوروبية بحجج إنسانية لكنها تحمل أطماعًا سياسية. وفي ظل الفوضى، بدأ النفوذ الروسي يتسلل مستغلًا ضعف الدولة وهشاشة القرار.
وفي عام 1876م، جلس عبدالحميد الثاني على العرش العثماني وسط احتفال مهيب، وألقى خطابًا وعد فيه بالإصلاح، لكن خلف الوعود كانت ترتسم ملامح استبداد مقنّع. اختار السلطان رجاله المقربين؛ محمود جلال الدين باشا قائداً عامًا للجند، وسعيد باشا الإنجليزي رئيسًا للياوران، ثم تجاهل وعوده لمدحت باشا بشأن تعيين سكرتيرين من أهل الثقة.
لم يقدّر مدحت باشا حجم الخطر، فترك مسألة السرعسكر دون ضغط، رغم معرفته بأن دعم عوني باشا كان حاسمًا في خلع عبد العزيز. حين تلكأ السلطان في تنفيذ وعوده، قبل مدحت أنصاف الحلول، وتنازل عن بعض الشروط في سبيل إقرار الدستور. لكن السلطان، الذي كانت عينه على استعادة السلطة المطلقة، بدأ التململ من مدحت، فقاومه بالمماطلة، ثم أوعز إلى رجاله بإفشاله. رفض نص الدستور كما كتبه مدحت، وأصر على تعديلات أفرغته من مضمونه. وأمام الضغوط، قبل مدحت على مضض.
تسارعت الأحداث، وبدأ السلطان يخطط للتخلص من مدحت. تمت محاكمته في جلسة مغلقة في قصر يلدز، خلف ستار حضر السلطان شخصيًا ليراقبها، في خرق صريح لتعهدات علنية بمحاكمة علنية. الادعاء كان عبثيًا: اتُّهم مدحت بالتآمر على قتل السلطان المقتول عبدالعزيز، وقال الادعاء إن المؤامرة شارك فيها عدد من الضباط والخدم، وجرى القتل بأمر مباشر من لجنة ضمت مدحت ورفاقه. لم تُقدَّم أدلة حقيقية، ولم يُسمح لمحامي مدحت بالتواصل معه إلا نادرًا.
صدر الحكم بالإعدام، ثم خفف إلى النفي تحت ضغط دولي. نُفي مدحت إلى الطائف، وظل هناك تحت رقابة مشددة، يكتب لعائلته شكاوى من سوء العلاج والطعام. في رسائل متأخرة، أشار إلى أنه يُدسّ له السم، وأنه لا يثق بمن حوله. وفي 26 أبريل 1883، دهمته مجموعة رجال ليلاً، وخنقوه حتى الموت. أُرسلت جمجمته إلى يلدز في علبة وُصفت بأنها تحوي “عاجًا يابانيًّا”. لقد كان ختامًا مأساويًا لرجل أراد إصلاح الدولة فابتلعته.
قُتل مدحت باشا لا لأنه خان، بل لأنه صدق. السلطان، الذي وعد بالإصلاح، قتل الدستور وقتل صدقه. ولم يكن القتل بالسم أو الحبل، بل كان اغتيالًا للدولة من الداخل. فتحوّل الحكم في عهد عبدالحميد الثاني من طموح إصلاح إلى عصر استبداد طويل، ومهد الطريق لسقوط نهائي جاء بعد عقود. أما مدحت، فظل شاهدًا على أن الشك في السياسة قد يكون ضرورة، لكن حين يحكم السياسة وحده، يصبح طريقًا للدم.


- زكريا بيومي، قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين (جدة: عالم المعرفة، 1991).
- عبدالعزيز الشناوي، الدولة العثمانية دولة اسلامية مفترى عليها (القاهرة: مكتبة الأنجلو، 1980).
- محمد بن إياس، بدائع الزهور في وقائع الدهور، تحقيق: محمد مصطفى (القاهرة: د.ن، 1984).
- محمد فريد بك، تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي (بيروت: دار النفائس، 1981).