
صفحات من تاريخ العبث التركي بالمقدسات
الحجر الأسود من الكعبة المشرفة إلى ضريح عثماني
قصة الحجر الأسود الذي سُرقت أجزاء منه من الكعبة المشرفة ونُقلت إلى إسطنبول تحكي كيف كان ينظر سلاطين بني عثمان للحرمين الشريفين، وفي الوقت نفسه تعطينا تصورًا عن ادعاءات “العثمانيين الجدد” أن الدولة العثمانية كانت تخدم وتراعي شؤون الحرمين، بينما الوقائع والآثار الموجودة تؤكد عكس ذلك.
كيف انتقلت أجزاء من أقدس حجر في الإسلام إلى إسطنبول، وما تكشفه القصة عن نظرة السلاطين العثمانيين للحرمين الشريفين؟.

إنها الجرأة على الأماكن المقدسة واعتبارها أملاكًا خاصة يتصرف فيها السلطان العثماني كيفما شاء، وكأنهم لم يحتلوا البلاد العربية بما فيها الحرمين الشريفين فقط، بل واحتلوا المقدسات الإسلامية وعبثوا بها، فكيف يجرؤ أحدٌ ما على وضع أجزاء من الكعبة المشرفة فوق ضريح، خاصة وأن هناك الكثير من الآراء الفقهية تعتبره شركًا بالله.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «نزل الحجر الأسود وهو أشد بياضًا من اللبن فسودته خطايا بني آدم» رواه الترمذي وحسنه. وفي رواية: «الحجر الأسود من الجنة» رواه النسائي. وفي رواية: «نزل الحجر الأسود من الجنة كان أشد بياضًا من الثلج حتى سودته خطايا أهل الشرك» رواه أحمد.
هكذا يعظّم الإسلام الحجر الأسود، ويعلي من مكانته، حرصًا منه على عدم تعريضه لأي خلل، أو ابتذال أو تسليع، لكن العثمانيين خالفوا الأمر النبوي وسلّعوا الحجر الأسود، بل ووضعوه على ضريح دون أي احترام لمقام الحجر والكعبة المشرفة التي هو جزء منها.
والقصة تعود إلى ما قبل خمسة قرون حين انكسرت أجزاء من الحجر الأسود، فارتبك المسلمون في مكة المكرمة، واحتاروا في التصرف بها، حتى جاء الأمر من المحتل العثماني بإرسالها فورًا إلى إسطنبول، فهل كان الأمر يهدف لإنشاء “بيت مقدس” بديل عن الكعبة المشرفة والبيت الحرام، أم أنه تصرف متطرف لا يقيم للكعبة شأنًا، ولذلك فقد استهان بأخذ أجزاء منها ووضعها في مساجده وفوق أضرحته.
وتتفاخر تركيا بسرقة الحجر الأسود حتى إن الدليل السياحي لمدينة إسطنبول يضع عنوانًا رئيسيًا لضريح السلطان سليمان، ويذكر تفاصيل عن الحجر الأسود وكيف وضع على ضريحه.
لقد قام السلطان العثماني سليمان القانوني باستخدام سلطته فاستحوذ على تلك القطع من الكعبة المشرفة، على أن يتم وضعها في جامع “صقلي محمد باشا” الموجود في إسطنبول، إذ كانت القطع التي نُزعت من الحجر الأسود عدة قطع، تم وضع أربع منها في جامع صقلي باشا على المحراب والمنبر والقبة وعند الباب، ووضعت القطعة الخامسة والكبيرة فوق “ضريح” السلطان سليمان القانوني.
ذكر “السنجاري” في كتابه منائح الكرم أن السلطان مراد الرابع في سنة ١٠٤٠هـ أرسل المعماري التركي رضوان ليصلح ما تهدم من الكعبة المشرفة – التي تعرضت للضرر حينها – خاصة وأن الحجر الأسود تشظّى منه عدة قطع، ويقول “السنجاري” إن المعماري التركي رضوان لما وصل إلى الكعبة وجد الحجر الأسود قد تشظّى إلى عدة شظايا، وتفككت أجزاؤه، ويستطيع أي أحد أن يأخذ أي قطعة منه.
تشير وكالة الأنباء التركية “الأناضول” إلى موضوع قطع الحجر الأسود قائلة: “إن أجزاء من الحجر الأسود انكسرت، فحرص السلطان العثماني سليمان القانوني على إحضار تلك الأجزاء المكسورة إلى إسطنبول، ووضع المعماري سنان 4 قطع من الحجر الأسود في تحفته المعمارية “مسجد صقللي محمد باشا” الذي بنته زوجة الصدر الأعظم صقللي في حي “قاديرغا” بمدينة إسطنبول عام 1571 تخليدًا لذكرى الأخير”، وتم وضع قطع الحجر الأسود الأربع ضمن إطارات ذهبية وسط الألواح الرخامية الموجودة على مدخل المسجد، وأعلى المحراب، وفوق مدخل المنبر، وتحت قبة المنبر، والجزء الأكبر من أجزاء الحجر الأسود الموجودة في تركيا موضوع فوق باب مدخل ضريح السلطان سليمان القانوني في مجمع السليمانية، وخلال شهر رمضان يستطيع الزوار مشاهدة قطع من الحجر الأسود المحفوظة منذ 5 قرون في مسجد صقللي محمد باشا”.
وفي تقرير تركي آخر ترجمته الباحثة مها مصطفى، نشر على منصة الألوكة، يشير إلى أنه توجد في تركيا 6 أجزاء من الحجر الأسود الموجود بالكعبة، توجد أربعة منها في مسجد (صقلي باشا) بإسطنبول، وواحدة في ضريح السلطان (سليمان القانوني)، وواحدة في مسجد (أسكى) في مدينة (أديرنا).
وفي كتاب الرحلة الحجازية يشير محمد لبيب البتنوني إلى أن السلطان العثماني سليمان القانوني قام بصيانة لبعض أجزاء الكعبة، والسؤال هنا: مادام قام بهذه الصيانة، لماذا لم يُعد أجزاء الحجر الأسود واحتفظ بها؟.


- الدليل السياحي لمدينة إسطنبول: ضريح السلطان سليمان القانوني.
- علي السنجاري، منائح الكرم في أخبار مكة والبيت وولاة الحرم (مكة المكرمة: جامعة أم القرى، 1998).
- محمد لبيب البتنوني، الرحلة الحجازية (القاهرة: مدرسة ومطبعة عباس الأول، د.ت).


سليمان القانوني:
من سلطان المجد إلى مستحوذ المقدسات
يُقدَّم سليمان القانوني في كتب التاريخ العثماني ومسلسلات “القوى الناعمة” بصورة السلطان المهيب الذي بلغ بالدولة العثمانية أوج قوتها. لكن وراء هذه الصورة اللامعة تقف حقائق أكثر قتامة، تكشف عن هوس شخصي بالفخامة والكنوز، وعن سياسات توسعية لم تتورع عن الاستيلاء على مقدسات الأمة وتحويلها إلى رموز شخصية للسلطان.
قراءة نقدية في شخصية السلطان العثماني بين هوس الفخامة وتناقضات السياسة.

نقش الغرور في قلعة بندر
في نقش مؤرخ بسنة (1538) بقلعة بندر، دوّن سليمان القانوني بلسانه ما يلخص نظرته لنفسه وسلطانه: “أنا عبد الله وسلطان هذا العالم، ورأس ملة المسلمين بفضل الله عليّ… أنا سليمان الذي يذكر اسمي في الخطبة بمكة والمدينة، في بغداد أنا الشاه، وفي بيزنطة أنا القيصر، في مصر أنا السلطان”…
لم يكن النقش مجرد توثيق سياسي، بل إعلان عن سلطان يرى نفسه جامعًا للألقاب ومهيمنًا على الأمصار، من هنغاريا إلى الهند، في تعبير يجمع بين النزعة الدينية والروح الإمبراطورية المهيمنة.
من صياغة الجواهر إلى امتلاكها
وُلد سليمان في طرابزون سنة 900هـ، وتربى في كنف والده السلطان سليم الأول. منذ صغره ارتبط اسمه بصياغة الجواهر مع أخيه في الرضاعة “يحيى”، وهي هواية ستنعكس لاحقًا على ذوقه السياسي: هوس بالمجوهرات والأحجار النفيسة، يظهر بوضوح في ما خلفه سلاطين آل عثمان من تيجان وحُلي وعمارة مبهرة.
هذا الشغف تحول إلى ممارسة سياسية، تجسدت في الاستحواذ على ما هو أثمن من المجوهرات الدنيوية: أجزاء من الحجر الأسود نفسه، التي انتُزعت من الكعبة ووُضعت على قبره وفي مساجد إسطنبول.
الألقاب والنصوص الدينية كغطاء سياسي
كان القانوني يفتتح مراسلاته بآية نبي الله سليمان: “إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم”. قد يُقال إن ذلك مجرد اقتباس، لكن استخدامه المتكرر يوحي بتماهٍ مع شخصية نبي ملك، بما يعزز صورته كحاكم قدري يجمع بين النبوة والسلطنة في المخيال السياسي. هذه الذهنية القانونية–السلطوية انعكست على سلوكه؛ فحين نازع أخاه محمد جلبي على العرش، برر الأمر بأن خصمه لم يكن “قانونيًا”، ليتخذ من القانون أداة لتبرير السيطرة.
توزيع المال… وشراء الولاء
استهل حكمه بتوزيع النقود على الانكشارية، وتعيين مربيه قاسم باشا مستشارًا خاصًا، وإرسال خطابات للولاة وأشراف مكة والمدينة مفعمة بآيات العدل والتحذير من الظلم، في صورة ظاهرها الإصلاح وباطنها تثبيت الولاء.
إعمار المدن… ونهب الأيدي الماهرة
عرف عن القانوني شغفه بالبناء، فشيد المساجد والحصون والقناطر في بغداد ودمشق ومكة المكرمة، وأبرزها مسجد السليمانية في إسطنبول. لكن هذه الإنجازات لا تنفي أن كثيرًا من المهندسين والحرفيين نقلوا قسرًا من بلادهم إلى الأناضول، ليجعلوا من إسطنبول حاضرة تضاهي القاهرة وغيرها، في ممارسة تعكس استغلالًا للقوة بدلًا من شراكة الحضارة.
“الكنوز المقدسة”: بين التبجيل والسطو
يحتوي متحف طوب قابي اليوم على ما يسميه الأتراك “الكنوز المقدسة”، وهي في حقيقتها مقتنيات استُجلبت من أرجاء العالم الإسلامي، بينها قطع من الحجر الأسود نُزعت من الكعبة، وُضعت على قبر القانوني وفي مسجد الصدر الأعظم قوصللو باشا. هذه الممارسة تكشف كيف اختزلت الرموز الدينية إلى أدوات لتلميع صورة السلطان ومجده الشخصي.
تناقضات السياسة العثمانية
يدافع بعض المؤرخين عن الدولة العثمانية بالقول إنها استُهدفت بمؤامرات خارجية أدت إلى تمزيقها، لكن هذا الطرح يتجاهل الثوابت التاريخية التي تؤكد أن سلاطين آل عثمان، ومنهم القانوني، دعموا التوجهات الدستورية التي ابتعدت عن التشريع الإسلامي، وفتحوا المجال للتيارات القومية والطورانية، وتبنوا سياسة التتريك التي أضعفت اللحمة الإسلامية.


- محمد أنيس، الدولة العثمانية والمشرق العربي(القاهرة: د.ن، 1963).
- محمد فريد بك، تاريخ الدَّولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي (بيروت: دار النفائس، 1983).