عصيان الجلالي
حركة الغضب الاجتماعي ضد الظلم العثماني
لم تكن حركات التمرد ضد التسلط والعنف الاجتماعي في الدولة العثمانية وليدة صدفة، ولا نتاج مؤامرات خارجية كما حاولت بعض الروايات تبريرها، بل نشأت من أعماق المجتمع العثماني ذاته ومن داخل مفاصل سلطته. لقد كانت انعكاسًا طبيعيًا للحالة المتدهورة التي وصلت إليها المجتمعات المحلية في الأناضول، نتيجة الاستنزاف الهائل للموارد، التي صُبَّت في حروب توسعية أنهكت خزينة الدولة وأرهقت الأقاليم الخاضعة لها.
العصيان ضد التسلط وضرائب الحروب وفساد الإنكشارية وحرملك السلاطين.
كانت هذه الحركات بمثابة إعلان شعبي صريح عن سخط الناس وضيقهم من الأوضاع المتردية، بعدما سيطرت الطبقات العليا — من باشوات وبكوات وصدور وانكشاريين وغلمان ونساء الحرملك — على خيرات البلاد، وحرمت عامة الناس من أبسط حقوقهم. ومع تراكم هذا الظلم، أصبح أي متمرد يُنظر إليه كرمز للأمل، فتحولت حركات العصيان إلى ظاهرة اجتماعية واسعة النطاق انضم إليها مختلف فئات الشعب.
تمرد قرة يازجي عبد الحليم وبداية الانفجار
هزّت حركات الجلالي أركان الدولة العثمانية خلال القرن السابع عشر الميلادي، وكان المحرك الأول لها هو “قره يازجي عبدالحليم”، الذي قاد واحدة من أبرز الثورات ضد السلطة العثمانية بسبب تفشي المظالم والمفاسد. وقد شكّل تمرده نقطة تحول في العلاقة بين الدولة ورعاياها، إذ وجد فيه الغاضبون متنفسًا من جور الإدارة العثمانية، فالتف حوله الآلاف من الساخطين.
يصف المؤلف سيد محمد السيد في كتابه دراسات في التاريخ العثماني حال الدولة العثمانية بعد ثورة قره يازجي بأنها كانت غارقة في الفوضى والضعف، فقد استغل المتمرد الانشغال العثماني بحروبها التوسعية ليوسّع نفوذه في الأناضول. وتؤكد الباحثة سلوى محمد أبو زيد عبدالله في دراستها عصيان الجلالي في القرن السابع عشر أن تفكك السلطة المركزية واتساع رقعة الدولة ساهما في بروز هذه الحركات، إذ أفرزت الحروب الطويلة اضطرابات داخلية انعكست سلبًا على البناء الاجتماعي ومؤسسات الدولة.
الفوضى الاجتماعية والعسكرية: الإنكشارية نموذجًا
لم تكن حركة الجلالي مجرد تمرّد فردي، بل فوضى عارمة شارك فيها موظفون ومسؤولون وجنود من الإنكشارية أنفسهم، الذين مارسوا أعمال نهب وسلب ضد الأهالي. وقد أدى ذلك إلى ردود فعل غاضبة من المواطنين الذين ضاقوا ذرعًا بتدخلات الإنكشاريين في حياتهم اليومية ومصادرة أموالهم وأراضيهم.
توضح أبو زيد في دراستها أن الحروب الطويلة وما فرضته من ضرائب باهظة كانت من أبرز الأسباب التي دفعت الشعب إلى التمرد، إذ لم تعد الضرائب وسيلةً لتمويل الدفاع عن الدولة بقدر ما أصبحت وسيلة لإثراء النخبة الحاكمة.
كيف ظهر قرة يازجي… وكيف نصب نفسه سلطانًا؟
استغل قرة يازجي سوء الإدارة والفوضى التي عمّت الأناضول، وأعلن العصيان ضد الدولة. وسرعان ما انضم إليه آلاف الجنود الساخطين الرافضين للحروب، حتى بلغ عدد أتباعه أكثر من ثلاثين ألفًا من الغاضبين ضد سياسات الصدر الأعظم. ولم يكتفِ بالعصيان المسلح، بل أعلن نفسه سلطانًا مستقلاً، وأصدر الفرمانات الإدارية، وبدأ بالسيطرة على المدن الواحدة تلو الأخرى، يضمها إلى سلطانه المزعوم.
ومن مفارقات الضعف العثماني أن إسطنبول أرسلت القائد حسين باشا لقمع التمرد، إلا أن السلطة المركزية رفضت أساليبه في المعالجة فزجّت به في السجن، ليهرب لاحقًا وينضم إلى المتمردين أنفسهم، فيتحول من أداة للقمع إلى أحد أركان العصيان.
وفي النهاية تمكنت الدولة المركزية في إسطنبول من التحايل على المتمردين حتى سلّموا حسين باشا إليها، ليُعاقَب؛ إذ قُطعت يداه ورجلاه، وطيف به في أزقة إسطنبول، ثم أُعدم على مرأى الناس، في مشهد جسّد قسوة السلطة وخوفها في آنٍ واحد.
وفي كتاب النظم السياسية في التاريخ الإسلامي (الدولة الأندلسية – الدولة العثمانية)، يصف المؤلفون حال السلطنة عشية التمرد بأنها كانت غارقة في إهمال العدالة وفرض الضرائب الباهظة، مما أدى إلى تفكك الروابط بين الدولة وقطاعات واسعة من رعاياها.
التمرد كظاهرة اجتماعية شاملة
لم تكن حركة الجلالي مجرد تمرّد سياسي، بل تحولت إلى ظاهرة اجتماعية كبرى تعكس عمق الفجوة الطبقية بين فقراء الشعب وطبقة السلاطين والحاشية. فالأغلبية الساحقة من السكان كانت تعيش تحت خط الفقر ووطأة الضرائب، في حين كانت طبقة القصور السلطانية تنعم بالبذخ الفاحش والترف المبالغ فيه، يتجلى في القصور الفارهة، والإقطاعات الضخمة، وكثرة الجواري والعبيد في أروقة الحرملك.
ومن هنا، اعتُبرت حركة الجلالي من أهم الحركات الاجتماعية في التاريخ العثماني، لأنها كشفت عن حجم الاختلال في بنية الدولة، وعن مدى النقمة التي تولدت لدى الناس من جراء الظلم والتمييز. وقد استمر هذا العصيان خلال الفترة (1595-1610)، وتعدد قادته بين عامة الناس والجنود والباشوات، مما يدل على أنها لم تكن حركة فقراء فقط، بل ثورة شاملة ضد سياسات القصور السلطانية وفوضى الحكم التي عمّت السلطنة بأسرها.
- سلوى محمد أبو زيد، “عصيان الجلالي في القرن السابع عشر”، مجلة مركز حضارات البحر المتوسط، المجلد (4)، ع.1 (2020).
- سيد محمد سيد، دراسات في التاريخ العثماني (القاهرة: دار الصحوة، 1996).
- مجموعة مؤلفين، النظم السياسية في التاريخ الإسلامي: الدولة الأندلسية – الدولة العثمانية (القاهرة: دار الكتاب المصري، 2014).
نظام الحكم العثماني:
شرعية العرش بين الدم والفتوى
لم يكن نظام الحكم في الدولة العثمانية قائمًا على مبدأ الوراثة المنتظمة أو التسلسل الهادئ في انتقال السلطة، بل تميّز منذ بداياته بالدموية والصراع. فقد كان السلاطين الأوائل يجمعون بين التربية العسكرية القاسية والنزعة التوسعية، وكان الابن عادةً يخلف أباه في السلطنة، لكن ليس بالضرورة أن يكون الأكبر سنًّا، مما جعل الصراع على العرش مشهدًا متكررًا في التاريخ العثماني.
حين صار قتل الإخوة سياسة حكم، وصار العرش لا يُورث إلا على أطلال القرابة.
وقد سجّل المؤرخون واحدة من أعنف هذه الصراعات بعد معركة أنقرة (1402م)، حين تنازع أبناء بايزيد الأول على الحكم لعشر سنوات كاملة، حتى عُرفت تلك الحقبة في المصادر العثمانية بـعهد الفتنة. كان هذا الصراع إيذانًا بولادة تقليد دموي داخل البيت العثماني، إذ باتت المنافسة على العرش خطرًا وجوديًا على السلطان نفسه، فظهر الحل الذي اعتُبر شرعيًّا: قتل الإخوة.
تكرّس هذا العرف رسمياً في عهد السلطان محمد الثاني (الفاتح)، الذي وضع نصًّا شهيرًا موجَّهًا إلى من يخلفه في السلطنة، جاء فيه: “وعلى أي واحد من أولادي تؤول إليه السلطنة أن يقتل إخوته، فهذا يناسب نظام العالم، وإن معظم العلماء يسمحون بذلك، ولهذا فعليه أن يتصرف بمقتضاه”. بهذا النص أصبح القتل مشروعًا سياسيًا يلبس عباءة الفقه، وتحول من إجراء اضطراري إلى جزء من نظام الحكم وإدارة السلطنة. وكي يُسكت المعترضين، جرى تبريره بأنه يهدف إلى الحفاظ على نظام العالم ومنع الفتن، وأن الأكفأ هو من ينفذ هذا الحكم، بمعاونة رجال القصر والإنكشارية.
تعدد الأنظمة وصناعة الخليفة من ثلاثة أصول
تأرجح نظام الحكم العثماني بين ثلاثة تقاليد متناقضة: النظام القبلي الآسيوي الذي حمله العثمانيون من أواسط آسيا، وهو نظام بدوي رعوي يفتقر إلى البناء المؤسسي. والنظام الروماني الإمبراطوري الذي استعار منه العثمانيون أساليب الإدارة المركزية والبلاط الملكي. كذلك النظام الإسلامي العربي الذي حاولوا تقليده لكسب شرعية دينية في العالم الإسلامي. ومن تداخل هذه الأنظمة الثلاثة نشأ كيانٌ هجين، لا هو بالإسلامي ولا الإمبراطوري المدني، بل مزيج من الوراثة القبلية والاستبداد العسكري والرمزية الدينية.
تُجمِع المصادر العثمانية والمحدثة على أن السلطان محمد الثالث، الذي تولى الحكم سنة (1594) وهو في التاسعة والعشرين من عمره، ارتكب أكبر مجزرة داخلية في تاريخ آل عثمان، يقول عنها محمد فريد بك في كتابه تاريخ الدولة العلية العثمانية: “وتولى بعد موت أبيه مراد الثالث ابن صفية الإيطالية الأصل، وكان له تسعة عشر أخاً، فأمر بخنقهم قبل دفن أبيه، ودُفنوا معه تجاه آيا صوفيا”. ويضيف أن السلطان سار على نهج أسلافه في عدم الخروج إلى الحروب، وترك شؤون الدولة في يد وزرائه، فضعفت أحوال السلطنة وتوالت هزائم جيشها. حتى أن شيخه ومعلمه نصحه بالخروج بنفسه إلى الجبهة لإنقاذ العرش، فامتثل لذلك.
لكن ما يثير العجب أن المؤرخين الذين نقلوا حادثة قتل الإخوة وصفوا السلطان بأنه تقيٌّ محبٌّ للعدل والإنصاف، وكأن القتل أصبح من لوازم الحكم العادل، وهو ما يؤكد أن هذا الإجراء لم يعد جريمة بل نظامًا رسميًّا واجب التنفيذ.
الفتوى تُبرّر، والأم تُتَّهم
في لحظات احتضاره، جمع السلطان محمد الثالث وزراءه والمفتي وقضاة العسكر وقال لهم: “أشهدكم أني عهدت لولدي أحمد بالملك من بعدي”، ثم أوصى ابنه قائلاً: “ولا تقتل أخاك مصطفى”. كانت تلك الوصية بمثابة ندم متأخر في نظامٍ لا يعترف بالرحمة عند انتقال السلطة. والغريب أن المؤرخين حاولوا تبرئة السلطان من دماء إخوته، فنسبوا أفعاله إلى تأثير والدته صفية ذات الأصل الإيطالي، التي وصفوها بأنها السلطانة المتحكمة في قراراته. وهكذا جرى تصوير القتل على أنه مؤامرة نسائية داخل الحرملك أكثر من كونه قرارًا سلطانيًّا متعمدًا.
تقديس الشيوخ والأولياء… وجه آخر للسلطة
كان السلاطين العثمانيون يميلون إلى التصوف ويؤمنون بكرامات الأولياء، فكان شيوخ الطرق الصوفية ركنًا من أركان البلاط، يباركون الجلوس على العرش ويبررون الحروب. وقد عبّر السلطان محمد الثالث عن تعلقه بشيخه سعد الدين بأبيات شعرية قال فيها:
أدعوك كي تتم لي المقاصِدَا
وتقمع المانعَ والمعانِدَا
وكيف لا، ونصري حاصلٌ من سعدٍ
تضيءُ نورًا للورى وتهدِي
وفي المقابل، خاطبه الشيخ بقوله: “أنا معك أسير حتى أخلّص وجودي من الذنوب، فإنني بها أسير”. كان هذا التبادل الصوفي بين السلطان وشيخه غطاءً روحانيًا لسلطة دنيوية تقوم على الفتوى والقتل باسم الدين.
يذكر كتاب الدولة العثمانية المجهولة أن السلطان محمد الثالث كان ضعيف الشخصية، ساذجًا وموسوسًا، خاضعًا لتأثير والدته صفية، ويضيف: “كان أكثر السلاطين استغلالًا لمسألة قتل الإخوة استغلالًا سيئًا، إذ أعدم تسعة عشر أخًا استنادًا إلى فتاوى ضعيفة”. ورغم اعتراف المؤلفين بضعف تلك الفتاوى، فقد اعتمد عليها النظام العثماني لتبرير سياسات العرش القائمة على القتل، لا على الشورى أو البيعة. وهكذا، غدا اعتلاء العرش سياسة دم لا خلافة دين، وسُمي السلطان صاحب العرش.
لقد كانت سياسة قتل الإخوة واحدة من أكثر سمات الحكم العثماني بشاعة، إذ جعلت الدم قرين العرش، وأقامت شرعيتها على فتاوى شكلية تفتقر إلى الأساس الشرعي. فكيف يمكن أن ينظر الشعب إلى حكّامه بعد أن شاهد السلطان يبدأ ولايته بقتل إخوته؟ أهو نظام رعبٍ مقنّن، أم عقيدة حكمٍ لا ترحم؟. مهما كانت الإجابة، يبقى هذا المشهد شاهدًا على مأساة إنسانية وسياسية، تم فيها خلط الدين بالسلطة، والفتوى بالدم، والعدل بالخوف.
- إسماعيل ياغي، الدولة العثمانية في التاريخ الإسلامي الحديث (الرياض: مكتبة العبيكان، 1995).
- أحمد عبدالرحيم، في أصول التاريخ العثماني (القاهرة: دار الشروق، 1993).
- محمد بن أبي السرور البكري، نصرة أهل الإيمان بدولة آل عثمان، تحقيق: يوسف الثقفي (الرياض: مكتبة الملك فهد الوطنية، 1995).
- إسماعيل سرهنك، تاريخ الدولة العثمانية (بيروت: د.ن، 1989).
- إبراهيم حليم بك، التحفة الحليمية في تاريخ الدولة العثمانية (القاهرة: د.ن، 1905).
- محمد فريد بك المحامي، تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي (بيروت: دار النفائس، 1983).
- أحمد آق كوندز وسعيد أوزتورك، الدولة العثمانية المجهولة (إسطنبول: وقف البحوث العثمانية، 2014).

