من الغموض إلى القداسة

تشكيل هوية الدولة العثمانية

تستعرض سجلات التاريخ الاجتماعي لبعض الدول والعائلات الكبرى فيها خلال فترة البدايات، والتي غالباً ما تكون محاطة بالغموض وفي بعض الأحيان ما يشار إليها بفترة الأسرار، وهي فترة تعتبر غير مفيدة لهذه الدول أو الأسر الحاكمة. ومع الانتقال من هذه الفترة إلى مرحلة التأسيس الحقيقي، يبدأ تشكيل الأساطير وأحيانًا صناعة التاريخ المقدس للتعمية أو التغطية على تلك البدايات المبكرة.

نلاحظ هذه الظاهرة في العديد من الحالات في التاريخ العربي والإسلامي. فمثلاً، في حالة الدولة الموحدية في المغرب، يبرز محمد بن تومرت، الذي لُقب بالمهدي المنتظر، ومن ثم الدولة الفاطمية التي أسسها عبيد الله المهدي الذي ارتبط اسمه أيضًا بالمهدي المنتظر. وقد رفضت المصادر السنية نسب هذه الشخصيات إلى الصحابي علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وزوجته فاطمة رضي الله عنها، ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشارت إلى أن أصول عبيدالله بعيدة عن قريش والعرب، وأرجعته إلى أصول غير عربية في الأساس. وفي مصر، يظهر الجدل حول أصل العائلة التي حكمت تحت ولاية محمد علي باشا، الذي يُنسب إلى الألبان أو الأتراك، وهناك من يذهب إلى أنه كان كرديًا.

وبالنظر إلى الدولة العثمانية، نجد أن فترة بداياتها مليئة بالأسرار، بل أن كثيرًا من المرويات المنسوبة لبداياتها أقرب للأسطورة والخيال منها إلى الحقيقة، مثل أكثر تلك الروايات التي تُظهر أرطغرل وابنه عثمان في صورة غير حقيقية، التي لا تعدو كونها روايات نُسجت لاحقًا، والتي تضمنت الكثير من الأساطير حول إسلامهم ونسبهم.

بدايةً لا بُد من الأخذ في الاعتبار إننا لا نملك في المصادر التاريخية الصحيحة عن أرطغرل إلا أسطر قليلة لا تُعَد على أصابع اليد الواحدة. وتؤكد الدراسات الأوروبية الحديثة على أن فترة البدايات في التاريخ العثماني هي فترة الأساطير. ويؤكد على ذلك المؤرخ أحمد عزت عبدالكريم: “إن المستقبل الكبير الذي صارت إليه هذه الإمارة العثمانية، بهر أصحاب القصص وكتاب الحوليات فنسجوا حول تاريخها الأولالدولة العثمانيةومؤسسيها الأُوَل القصص والأساطير، حتى اختلطت الأسطورة بالتاريخ“.

بناة الأساطير: كيف شكلت الأساطير المروية بدايات العثمانيين.

ويضع المؤرخ جيبونز، في أطروحته حول فترة البدايات في تاريخ الدولة العثمانية، الكثير من الشكوك حول مؤسسي هذه الدولة؛ فبدايةً ينفي عن أرطغرل إسلامه، ويرى أنه كان وثنيًا مثل الكثير من القبائل التركية آنذاك. بل والأكثر من ذلك يؤكد جيبونز على وثنية عثمان مؤسس الدولة، في بدايات حكمه، وأنه تحول إلى الإسلام في فترةٍ لاحقة.

ويؤكد المؤرخ التركي محمد فؤاد كوبريللي أنهلا يوجد مصدر تاريخي واحد يذكر أن قبيلة عثمان أو أي قبيلة من القبائل التركية التي وفدت على الأناضول فرارًا من زحف جنكيز خان كانت على دين الإسلام“. ويشير إلى العديد من الأساطير التي وضعت بعد أرطغرل وعثمان بزمن طويل، وبعد تأسيس الدولةلما عظم شأن الدولة العثمانية، اختُرعت للعثمانيين أنساب جديدة تهدف إلى تحقيق غايتين، إضفاء مزيد من الشرف على العثمانيين، وإظهار توددهم إلى بعض عناصر الإمبراطورية“. هكذا يعترف كوبريللي باختراع روايات تركية للتعظيم من شأن العثمانيين؛ إذ أرجع البعض نسب العثمانيين إلى أسرة آل كومنين، وهي أسرة حاكمة بيزنطية، بل وأرجعت بعض الروايات التركية نسب العثمانيين إلى النبي صلى الله عليه وسلم زورًا، ويعترف كوبريللي بأن هذه الأساطيرليست من التاريخ في شيء“.

ويعتبر المسلسل التركي الشهيرقيامة ارطغرلهو استمرار لظاهرة الأساطير ومحاولة صناعة تاريخ مقدس حول مؤسسي الدول. فبينما لا نجد غير أسطر قليلة في كتب التاريخ عن أرطغرل، نجد الدراما التركية تقدم هذا المسلسل عبر 150 حلقة، على ثلاثة مواسم عرض. من دون أي مصدر موثوق جاء به مؤلف ومخرج المسلسل بالمعلومات التاريخية اللازمة لصناعة مثل هذا المسلسل الضخم؟ الأكثر من ذلك أن صناع المسلسل تجاوزوا كل آراء المؤرخين التي ذهبت إلىوثنية أرطغرل، وذهبت الدراما إلى صناعة تاريخ مقدس لأرطغرلالقائد المجاهد المسلم“. لذلك يرى البعض أن هناك ثمة توظيف سياسي من وراء مسلسلقيامة أرطغرلوإظهار أن أرطغرلهدفه وحدة الأمة الإسلامية، ومقاومة من يريدون احتلال القدس“.

ويشيد أنصار تيار الإسلام السياسي بمسلسلقيامة أرطغرلويعملوا على الترويج لأسطورة أرطغرل، على أنها التاريخ، والتاريخ الإسلامي على وجه الخصوص.

هكذا لجأ العثمانيون الجدد إلى بعض الروايات الضعيفة، ونفخوا فيها من خلال الدراما التاريخية، لا سيماقيامة أرطغرلحيث حولوا أرطغرل من شخصية عادية، ليس لها دور يذكر في التاريخ، إلى بطلٍ أسطوري، ومن شخصية وثنية إلى مجاهد إسلامي كبير، اختارته العناية الإلهية لتأسيس إمبراطورية تمتد أملاكها عبر ثلاث قارات، كما تم الزج بمسألة القدس في هذه الدراما، في إطار تعظيم الدور التركي في هذا الشأن.

  1. أيمن فؤاد سيد، الدولة الفاطمية في مصر: تفسير جديد (القاهرة: مكتبة الأسرة، 1992).
  2. روبير مانتران، تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: بشير السباعي (القاهرة: دار الفكر، 1993).
  3. عفاف لطفي السيد، مصر في عهد محمد عليّ، ترجمة: عبد السميع عمر زين الدين (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2004).
  4. محمد فؤاد كوبريلي: قيام الدولة العثمانية، ترجمة: أحمد السعيد سليمان (القاهرة: دار الكاتب العربي، 1967).

السرديَّة المُفتعلة

في نشأة الدولة العثمانية

مع نهاية القرن الثالث عشر الميلادي، استقرت القبائل التركمانية في غرب الأناضول، مما سمح لها بمجاورة حدود الإمبراطورية البيزنطية. خلال هذه الفترة، ظهرت قيادة عثمان وقبيلته، إذ فرضوا سيطرتهم على الأقاليم الشمالية الأقرب إلى بيزنطة والبلقان، وبذلك استولوا على نطاقات نفوذ واسعة على هذه الحدود. في هذا الإطار، يوثق المؤرخ التركي خليل اينالجيك تحولات الأراضي الحدودية في كتابه بالقول: “أصبحت الثقافة الشعبية المنتشرة التي تضمنت الهرطقة الدينية والطرق الصوفية والأدب الملحمي والقانون العرفي، تحل محل الحضارة المتقدمة في المناطق الداخلية”.

تراث عثمان مؤسس الدولة العثمانية من الأحلام إلى السيطرة في الثقافة التركية.

من هذا المناخ الذي غلبت عليه الهرطقة الدينية والتقاليد الصوفية والدروشة، ظهرت إمارة عثمان لاحقًا، والتي تأثرت بشكل كبير بالرؤى والأحلام. ويؤكد حاجي خليفة ذلك في تعليقه قائلاً: “كان عثمان بك يقدر العلماء والصالحين، وكان يزور الشيخ أده بالي القرماني بشكل متكرر، وفي إحدى الليالي رأى في حلمه أن قمراً انتقل من حضن الشيخ إلى حضنه، ومن ثم نمت شجرة ضخمة من سرته تغطي الآفاق، وتحتها جبال وأنهار يستفيد الناس من مياهها. عند استيقاظه، روى حلمه للشيخ الذي بشره بمنصب السلطنة، وأن شأنه سيعلو وسيستفيد الناس منه ومن نسله، وزوجه ابنته على الفور”. ولكن يعلق محقق الكتاب بأن الشيخ كان حينها يبلغ من العمر مائة وعشرين عامًا.

وقد اعتمد العديد من المؤرخين الأتراك هذه الروايات بثقة وأدرجوها في كتبهم وانتشرت في الأدبيات العربية لاحقًا بدون دليل قاطع على وقوعها فعلاً، ولم تُعالج بمنهج علمي وموضوعي للتحقق من صحتها أو عدمها. لذا يناقش محمد سهيل طقوش هذه الرواية في كتابه قائلاً: “إن قصة زواج عثمان من ابنة أده بالي التي وردت في نهاية الحلم، كانت محل شكوك كثيرة، وربما تكون مفتعلة”. وللأسف، فإن هذا النوع من التاريخ الشعبي والمروي لا يتفق مع العقل والمنطق، بل يؤثر سلباً على تصور المتلقي، فالوعي التاريخي لا يقبل هذا النوع من الأفكار التي تستند إلى الرؤى والبشارات غير المنطقية.

من جهة أخرى، استغلت الدراما التركية هذه الأساطير وقدمتها كحقائق مؤكدة في التاريخ التركي، وهذا يبدو أنه يخدم مصالح السلطة العثمانية الجديدة في تلك المناطق الحدودية، ويهدف إلى التأثير على العشائر التركمانية الأخرى لتوحيدها تحت لواء إمارة عثمان. ولكن في الواقع، يعد هذا النوع من التاريخ طريقة غير موضوعية ومسيئة لتزييف الحقائق والتضليل على حساب الحقيقة التاريخية وعلى حساب القارئ والمشاهد، ولأغراض أخرى عنصرية وحزبية وسياسية.

  1. حاجي خليفة، فذلكة التواريخ، تحقيق: سيد محمد السيد (أنقرة: مؤسسة العالي أتاتورك للثقافة واللغات والتاريخ ، 2009).
  2. خليل اينالجيك، تاريخ الدول العثمانية من النشأة إلى الانحدار، ترجمة: محمد الأرناؤوط( بيروت: دار المدار الإسلامي ، 2002).
  3. طلال الطريفي: العثمانيون ماكان حديث يفترى، ط4 (الرياض: دار ائتلاف للنشر والتوزيع ، 2020).
  4. يلماز أوزتونا، المدخل إلى التاريخ التركي، ترجمة: أرشد الهرمزي (بيروت: الدار العربية للموسوعات، 2005).
  5. محمد سهيل طقّوش، تاريخ العثمانيين من قيام الدولة إلى الانقلاب على الخلافة (بيروت: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع، 2008).
تشغيل الفيديو

الدين كأداة للحكم:

روايات وأساطير في تكوين السلطة العثمانية والإخوان

إن دراسة معظم التنظيمات أو السلالات أو الأسر التي حكمت، أو حاولت أن تحكم، مناطق متفرقة من العالم الإسلامي خلال التاريخ الوسيط، تجعلنا نقف عند نقطة التقاء واحدة مرتبطة بمرحلة التأسيسأونقطة الانطلاق، والتي تعتبر محطة مفصلية في نسج منظومة الضبط والربط بين رأس التنظيم والأتباع، سواء كانوا مواطنين أم مريدين.

ويبدو أن الجماهير، كما تناولها غوستاف لوبون، تشتاق إلى زعيم خارق بكاريزما قيادية ومقدرات استثنائية، وبالتالي الخضوع له طواعية وتمكينه من ناصية مصيرها ومستقبلها والتضحية بالغالي والنفيس من أجل الزعيم وبقاءه ودوام ملكه واتساع نطاق دولته.

هذه الظاهرة القديمة واستراتيجيتها لجأ إليها الكثيرون في التاريخ المبكر والوسيط، مثل المهدي بن تومرت مؤسس الدولة الموحدية، والحسن الصباح زعيم فرقة الحشاشين النزارية وغيرهم. وحتى في القرن العشرين لعب على وترها الإخوان المسلمون من خلال رفع مؤسس التنظيم إلى مصاف القداسة، من خلال الاعتماد على خرافات نشرها مؤسس التنظيم في كتابه المرجعيمذكرات الدعوة والداعية“.

وتلتقي الأطروحة الإخوانية مع نظيرتها العثمانية في نقطة تقديس الأب المؤسس، ولربما كانت هذه الاستراتيجية من وحي وتوجيه الإخوان، وذلك بالنظر إلى تبنيهم لنفس التكتيكات.  ومن خلال مقتطف من كتابالدعوة والداعيةلمؤسس التنظيم الإخواني يقول حسن البنا: “رأيتفيما يرى النائم: أنني ذهبت إلى مقبرة البلد فرأيت  قبرا ضخما يهتز ويتحرك، ثم زاد اهتزازه واضطرابه حتى انشق فخرجت منه نار عاليةفصارت رجلاً هائل الطول والمنظر واجتمع الناس عليه من كل مكان فصاح فيهم بصوت واضح مسموع وقال لهم: أيها الناس: إن الله قد أباح لكم ما حرم عليكم، فافعلوا ما شئتم. فانبريت له من وسط هذا الجمع وصحت في وجههكذبتوالتفتُّ إلى الناس وقلت لهم: “أيها الناس هذا إبليس اللعين وقد جاء يفتنكم عن دينكم ويوسوس لكم فلا تصغوا إلى قوله ولا تستمعوا إلى كلامهفغضب وقال: “لا بد من أن نتسابق أمام هؤلاء الناس فإن سبقتني ورجعت إليهم ولم أقبض عليك فأنت صادق”. فقبلت شرطه وعدوت أمامه بأقصى سرعتي. وأين خطوي الصغير من خطوه الجبار، وقبل أن يدركني ظهر الشيخرحمه اللهمن طريق معترض وتلقاني في صدره واحتجزني بيساره ورفع يمناه مشيرا بها إلى هذا الشبح صائحا في وجهه: اخسأ يا لعين، فولى الأدبار واختفي، وانطلق الشيخ بعد ذلك، فعدت إلى الناس وقلت لهم: أرأيتم كيف أن هذا اللعين يضلكم عن أوامر الله. واستيقظت وكلي شوق و تقدير وترقب لحضور السيد عبد الوهاب الحصافي نجل الشيخرحمه اللهلأراه وأتلقى عنه الطريق ولكنه لم يحضر هذه الفترة“.

وتماهيا مع نفس الطرح، نجد المدافعين عن الأطروحة العثمانية يلوكون رواية لا تصح متنا ولا توثيقا عن أرطغرل بك، والتي تم نقلها من الحوليات العثمانية وتقول بأنهقضى ليلة في دار أحد الزهاد المسلمين. وقبل أن يأوي إلى فراشه جاء الزاهد بكتاب ووضعه على رف…. وحمل عثمان الكتاب وأخذ يقرأه واقفا حتى الصباح، ثم نام فرأى فيما يرى النائم كأن ملاكا يبشره بأنه وذريته سيعلو قدرهم جيلا بعد جيل على مدى القرون والأدهار لقاء احترامه القرآن“.

العثمانيون الجدد أرادوا تقديس أصل المنشئ، ولو في وقت متأخر، على اعتبار أن أرطغرل هذا، وإن وجد في الأصل، فلم يكن يرى في المعطى الديني أداة للانتشار والتوسع، على اعتبار أن الدين الإسلامي لم يكن أصلا منتشرا على نطاق واسع في تلك المناطق. كما أن محمد فؤاد كوبريلي نفسه فضح الرواية بل ووجه لها رصاصة الرحمة من خلال التأكيد على أنها رواية مماثلة وردت فيكتاب من الكتب المعنونة بسلجوقنامهصنف في القرن 14 أي قبل أن تصنف حوليات العثمانيين، ويذكر الرواية التي تتطابق معها.

تأثير الكتب والأحلام على تشكيل التاريخ السياسي للإيديولوجيا.

يتبين إذا أن أسلمة أرطغرل، ثم محاولة تضخيم شخصيته إعلاميا ودراميا، هو تكتيك عثماني إخواني، يحاول تقديس رأسالحركةوبالتالي إضفاء حالة من الخصوصية على الحركة العثمانية والتي ظلت تفتقد للعناصر الشرعية المؤسسة للخلافة الإسلامية والمتمثلة في العروبة.

  1. حسن البنا، مذكرات الدعوة والداعية (القاهرة: مركز الإعلام العربي، 2011).
  2. عبدالعزيز الشناوي، الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها (القاهرة: مكتبة الانجلو المصرية، 1980).
  3. غوستاف لوبون، سيكولوجيا الجماهير (بيروت: دار الساقي، 1991).
  4. محمد فؤاد كوبريلي، قيام الدولة العثمانية، ترجمة: أحمد السعيد (القاهرة: دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، د.ت).