قال عنه الألباني "لا يصح"

التاريخ العثماني: حوَّل محمد "الفاتح" أسطورةً دينية بحديثٍ ضعيف

السلطان محمد الثاني، المعروف بلقب “الفاتح”، يعد أحد أبرز سلاطين الدولة العثمانية، حيث نال هذا اللقب بعد فتح مدينة القسطنطينية، عاصمة الدولة البيزنطية، التي استعصت على محاولات الفتح السابقة. وبهذا الحدث التاريخي، اكتسب محمد الفاتح شهرة واسعة، تحولت لاحقًا إلى جزء من تاريخ مقدس محيط بشخصه.

فتح القسطنطينية في عام (1453)، الذي يعد من أهم الأحداث في القرن الخامس عشر. فقد كتب المؤرخ البيزنطي ميخائيل دوكاس في رثاء المدينة: “لهفي عليك أيتها المدينة- القسطنطينية- يا مدينة المدائن. يا قبلة أركان الكون!”، معبرًا عن فجيعته بسقوط المدينة بيد العثمانيين.

كان فتح القسطنطينية بالتأكيد لحظة محورية في التاريخ، ولكن المثير للجدل هو استغلال هذا الفتح لصناعة تاريخ مقدس للسلطان محمد الثاني. فقد تم تصويره على أنه “الأمير المبشر” في الحديث المنسوب للرسول صلى الله عليه وسلم وهو غير صحيح: “لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش”، حيث استخدمه البعض لتقديس تاريخ السلطان وتجاهل جوانب أخرى من حياته.

من ناحية أخرى، يفضل البعض عدم النظر إلى فتح القسطنطينية كعمل بطولي فقط، بل كنتاج طبيعي لضعف بيزنطة بعد تعرضها لغزوات متتالية من الصليبيين والمسلمين على حد سواء. وبالتالي، لم يكن الفتح إلا نتيجة حتمية لهذا الضعف.

تتباين الآراء حول شخصية السلطان محمد الفاتح؛ فبينما تصفه المصادر البيزنطية بالطاغية، تراه المصادر التركية سلطانًا رحيمًا حتى مع أعدائه. ومن أبرز الشواهد على هذا التباين قصة مقتل الإمبراطور البيزنطي قسطنطين أثناء الفتح، والتي قدمتها المصادر البيزنطية والتركية بروايات متناقضة، حيث وصفت الأولى السلطان بالقسوة، بينما صوّرته الثانية بالرحمة.

الفاتح حالة من التناقضات المؤدلجة التي ضُمنت كتب التاريخ.

كما تثار قضية أصول والدة السلطان محمد الفاتح، إذ يقال إنها كانت مسيحية، وهو ما ترفضه المصادر التركية بشدة، مصرةً على أنها كانت مسلمة. هذا الجدل يعكس جزءًا من الجهود المبذولة لصناعة تاريخ مقدس للسلطان، حيث يُعتبر هذا التفصيل مهمًا في سياق تقديمه كأمير مسلم مبشر بفتح القسطنطينية.

وأكثر من ذلك، هناك آراء تشير إلى أن السلطان محمد الفاتح ربما مال إلى المسيحية، حيث تبادل الرسائل مع بابا الفاتيكان، وهو ما يرفضه المؤرخ أحمد آق كوندز، معتبرًا إياها محاولات فاشلة من جانب البابا للتأثير على السلطان. ويرى كوندز أن اهتمام الفاتح بالفنون المسيحية كان تعبيرًا عن احترامه لعقائد رعاياه المسيحيين.

من الأمور الأخرى المثيرة للجدل هي بداية تأثير “الحريم” في السياسة العثمانية مع إنشاء قصر طوب قابي في عهد محمد الفاتح، حيث ظهرت “دائرة الحريم” التي لعبت دورًا متزايدًا في الشؤون الخاصة والعامة. ويشير البعض إلى أن زواج السلاطين من الجواري منذ عهد الفاتح قد أسهم في هذا التدخل المتزايد.

وفي النهاية، يُغفل البعض النظر إلى حال الدولة العثمانية في نهاية عصر محمد الفاتح، مركّزين على تصويره كـ”الأمير المبشر”. بينما تشير المصادر الأوروبية إلى أن السلطان ترك وراءه إمبراطورية واسعة لكنها منهكة، وجيشًا متعبًا وشعبًا تحت ضغوط كبيرة، ما أدى إلى ظهور صراعات داخلية بعد وفاته.

  1. أحمد آق كوندز، سعيد أوز تورك: الدولة العثمانية المجهولة، أستانبول، 2008.

 

  1. أكمل الدين إحسان أوغلي: الدولة العثمانية، تاريخ وحضارة، الجزء الأول، أستانبول، 1999.

 

  1. روبير مانتران: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: بشير السباعي، القاهرة، 1993.

 

  1. عبد السلام فهمي، فتح القسطنطينية (القاهرة: د.ن، 1969).

 

  1. ميخائيل دوكاس، شهادة المؤرخ البيزنطي دوكاس، ترجمة: حاتم الطحاوي، ضمن مجلة الاجتهاد، (1999).

كيف أسس بعض المؤرخين

للغلو في تاريخ العثمانيين؟

لطالما كان من أبرز ما يميز المتأثرين بالعثمانيين على مر العصور هو رفع مكانة سلاطينهم إلى مراتب تتجاوز حتى الصحابة الكرام، وهو تطرف لا يجد له مبررًا إلا في التبعية والعبودية الثقافية التي تجذرت في عقول كثير من المعجبين بالدولة العثمانية. وعلى الرغم من أن بعض السلاطين العثمانيين كانت لهم شخصيات مؤثرة، إلا أن رفعهم إلى مراتب عليا وتقديسهم إلى حد تحويلهم إلى أساطير يمثل أساس الخلاف مع مفهوم “العثمنة” الذي انتشر وتوسع بشكل كبير. وكان جوهر هذا المفهوم إعادة كتابة التاريخ العثماني وتجميله بإزالة أي سلبيات، مما أدى إلى خلق صورة مثالية عن السلاطين وسلطنتهم.

المبالغة في تمجيد محمد الفاتح:

يمكننا ملاحظة هذه المبالغات في كتابات بعض المؤرخين مثل أحمد بن يوسف القرماني، الذي يبالغ في وصف محمد الفاتح إلى درجة تفوق وصف الخلفاء الراشدين، وهم من أختصهم الله بصحبة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. يقول القرماني عن محمد الفاتح: “كان تقيًا صالحًا ملتزمًا بحدود الشريعة الإسلامية، وهو السلطان الضليل، الفاضل النبيل، أعظم الملوك جهادًا، وأقواهم إقدامًا واجتهادًا، وأكثرهم توكلًا على الله تعالى واعتمادًا. وهو الذي أسس ملك بني عثمان، وقنن لهم قوانين، صارت كالطوق في أجياد الزمان. وله مناقب جميلة، ومزايا فاضلة جليلة، وآثارٌ باقيةٌ في صفحات الليالي والأيام، ومآثرٌ لا يمحوها تعاقب السنين والأعوام.”

محمد الفاتح ولقب قيصر الروم:

لم يتوانَ العثمانيون وأتباعهم عن تبني أي لقب يفخم من شأن سلاطينهم، حتى ولو كان لقبًا مسيحيًا، وكان محمد الفاتح مثالًا لهذا الهوس بجمع الألقاب والأوصاف. من سرقتهم للقب “خليفة المسلمين” من الخليفة العباسي الذي أسروه في القاهرة ونقلوه إلى إسطنبول، إلى إضافة ألقاب عديدة على السلطان محمد خان، منها “الفاتح”، “أبو الفتوح”، “الغازي”، “صاحب النبوءة”، و”صاحب البشارة”، وأخيرًا “قيصر الروم”. وقد كان محمد خان أول من تسمى بـ”قيصر الروم” بين السلاطين. ومن المبالغات في وصفه، ما يذكره “أيتاج أوزكان” في كتابه عن السلطان محمد الفاتح: “إنه قائد الجيش الممدوح، وفارس الفرسان الطموح، إنه مُسَيِّر السفن على اليابسة، وهو أول من اخترع المدفع.”

قانون نامة: تشريع فوق الشريعة؟

على الرغم من المبالغات في تمجيد محمد الفاتح، إلا أن هذا لن يخفي حقيقة أنه سنّ قانونًا يُعرف بـ”قانون نامة”، يجيز قتل الأبناء والإخوة، وهو قانون استمر العمل به أجيالًا بعده، واستخدمه السلاطين للقتل والترويع ضد كل من يعتقدون أنه قد يهدد حكمهم أو ورثتهم. وهكذا أصبح قتل الحاكم لإخوته وأبنائه سُنة. وقد استخدم هذا القانون 14 سلطانًا من بعده لقتل إخوتهم، ومنهم سليمان القانوني الذي قتل اثنين من أبنائه وخنق أحفاده أمام والدهم. وهذه جريمة لا تُغتفر، فقد حمى الإسلام الأرواح البريئة ولم يشرع قتلها لأي سبب، فكيف يجرؤ محمد الفاتح على تشريع قانون يخالف شرع الله؟

علاقة السلطان محمد الفاتح بالمسيحية:

يشير فريد صلاح الهاشمي في كتابه “تركيا في ضوء الحقائق” إلى أن السلطان محمد الفاتح كان متفانيًا في محبة المسيحيين ومنبهرًا بآثارهم، حتى إنه كان يتردد إلى كنيسة في حي “غلطة”. وله أبيات يعبر فيها عن إعجابه بالمعالم المسيحية، وقد كتبها بالتركية العثمانية وعُربت نثرًا قدر الإمكان

تجاهلوا إعجابه بالمسيحية وقانون نامة الذي تعدى التشريع الإسلامي.

من شاهد غلطا لا يكاد يربط قلبه بالفردوس

لقيت مسيحًا في غلطا لهجته إفرنجية،

من شاهد عالم المسيح تغدو شفتاه صومعة

كيف تستطيع أن تثبت على دينك وتضبط الإيمان

يا ترى أيها المسلمون

من يرى تلك الكنيسة يغدو لا محالة كافرًا

لن يعتد بالكوثر من تجرع من ذلك الرحيق المختوم

لن يدخل المسجد من شاهد تلك الكنيسة العظيمة.”

وهذه الأبيات منقولة من ديوان السلطان محمد الفاتح، الذي حققه ونشره الدكتور محمد نور دوغان عام 2004.

  1. إبراهيم حسنين، سلاطين الدولة العثمانية (الإسكندرية: دار التعليم الجامعي، 2014).

 

  1. إيتاج أوزكان، السلطان محمد الفاتح، ترجمة: أحمد كمال (القاهرة: دار النيل، 2015).

 

  1. فريد الهاشمي، تركيا في ضوء الحقائق، دار العبر للنشر، (2014).
تشغيل الفيديو

الأحاديث النبوية

في فتح القسطنطينية: تفسيرات وتأويلات متناقضة

عندما تغيب العقول عن التفكير ويجتاحها تيار العواطف المتأثر بالمشاهد الدرامية التاريخية، تختفي الحقيقة. وهذا ما حصل في قصة فتح القسطنطينية التي تم تجسيدها في عمل تركي تاريخي بعنوان “مسلسل الفاتح – قصة عشق”. كانت الحلقة السادسة منه هي الأخيرة، حيث أرجعت الصحافة التركية توقف إنتاج المسلسل إلى توقعات الشركة المنتجة والقناة العارضة بزيادة نسبة المشاهدة، لكن تلك التوقعات لم تتحقق مما أدى إلى فشل المسلسل ووقف إنتاجه.

إن فتح القسطنطينية كان حلمًا يراود خلفاء المسلمين وسلاطينهم عبر القرون. ويصف المؤرخ المصري ابن تغري بردي، المتوفى عام 874هـ، في كتابه “النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة”، أصداء هذا الفتح بين عامة المسلمين وخاصتهم. فقد كتب أن السلطان والشعب في القاهرة ابتهجوا بهذا الفتح العظيم، ودُقت البشائر وزينت المدينة أيامًا عديدة، وأمعنت الناس في الاحتفال بتزيين الحوانيت والأماكن.

في الحادي والعشرين من جمادى الأولى سنة 857هـ، الموافق 29 مايو 1453م، تمكنت الجيوش العثمانية من السيطرة على مدينة القسطنطينية. دخل السلطان محمد الثاني المدينة على رأس قواته، وتوجه مباشرة إلى كنيسة آيا صوفيا، معلنًا أن المسلمين قد نجحوا أخيرًا في إسقاط أهم معاقل المسيحية الأرثوذكسية. وقد حاولت بعض الحركات الإسلامية السياسية استغلال هذا الحدث التاريخي المهم عبر تجسيده في مسلسل درامي يهدف إلى استدرار عواطف المشاهدين، وذلك من خلال إسقاط الأحاديث النبوية الشريفة على شخصية السلطان محمد الثاني.

وقد وردت عدة روايات وأحاديث نبوية تتناول موضوع فتح القسطنطينية. أشهرها ثلاث روايات: الأولى نقلها الحاكم النيسابوري في كتابه “المستدرك على الصحيحين” عن عبد الله بن عمرو بن العاص، حيث سأل الصحابة الرسول عن أي المدينتين تفتح أولاً، فأجابهم النبي بأنها القسطنطينية. الرواية الثانية وردت في صحيح البخاري عن أم حرام بنت ملحان، حيث قالت إن النبي بشر بأن أول جيش من أمته يغزو مدينة قيصر مغفور لهم. أما الرواية الثالثة، التي تعد الأشهر، فقد نقلها أحمد بن حنبل في مسنده عن بشر بن ربيعة الخثعمي، حيث قال النبي: “لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ، فَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا، وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ”. وهناك رواية رابعة وردت في صحيح مسلم عن أبي هريرة، تتحدث عن فتح مدينة ذات جانب في البر وآخر في البحر، ما دفع بعض العلماء إلى تفسيرها بأنها تشير إلى القسطنطينية.

ولقد كانت هناك محاولات عديدة لفتح القسطنطينية منذ عهد الدولة الأموية، حيث تعتبر هذه الروايات والشواهد التاريخية كثيرة ومؤثرة. وقد اعتبر العديد من المؤرخين الموالين للدولة العثمانية أن السلطان محمد الثاني هو الأمير الذي بشر به النبي. ويقول علي محمد الصلابي، في أحد كتبه، أن الشيخ آق شمس الدين لعب دورًا مهمًا في تهيئة السلطان محمد لفتح القسطنطينية، حيث أشار إلى أن الشيخ كان يوحي للسلطان منذ صغره بأنه الأمير المقصود في الحديث النبوي.

الشيخ آق شمس الدين ومحمد الفاتح: دور محدود وادعاءات مغلوطة.

ولكن الواقع التاريخي يشير إلى أن الشيخ شمس الدين لم يلتق بالسلطان إلا قبل فترة قصيرة من تحرك الجيش لغزو القسطنطينية، وفقًا لأرجح الأقوال. وعلى الرغم من ذلك، تعرض حديث فتح القسطنطينية لتضعيف من قبل مجموعة من العلماء المعاصرين مثل الشيخ أحمد شاكر وناصر الدين الألباني وشعيب الأرناؤوط، بل إن الألباني ذكر بأنه حديثٌ لا يصح. ويشير هؤلاء العلماء إلى أن الأحاديث الصحيحة حول فتح القسطنطينية تتحدث عن فتح “خاص” سيقع في آخر الزمان، ويعقبه ظهور المسيح الدجال، كما ورد عن أنس بن مالك في رواية الترمذي.

  1. https://www.alwatanvoice.com/arabic/news/2018/04/22/

 

  1. حاتم عبد الرحمن الطحاوي: “تاريخ مساجد المسلمين في إسطنبول قبل الفتح العثماني”، (صحيفة إلكترونية ثقافية، تصدر عن مركز دال للأبحاث والإنتاج الإعلامي 13/12/2020 https://hafryat.com/ar/blog)

 

  1. علي محمد محمد الصلابي: الدَّولة العُثمانية عَوَامِل النهوض وأسباب السقوط،(القاهرة: دار التوزيع والنشر الإسلامية، 2001م)

 

  1. محمد عبد الرحمن: “من هم “الجهاردية” وما علاقتهم بـ العثمانيين؟.. طائفة شيعية ابتكرت لعبة “الطاولة” ويؤمنون بحلول الله فى الجميلات.. استدعاهم محمد الفاتح لفتح القسطنطينية.. وأسطورة توراتية وراء دفعهم “سليم الأول” لاحتلال مصر” https://www.youm7.com/story/2019/12/15

 

  1. محمد يسري: https://www.irfaasawtak.com/history/2022/08/11

 

  1. يوسف بن تغري بردي الحنفي، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة (القاهرة : وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دار الكتب).