المال والدولة والنفوذ.. ثلاثي الحب العثماني اليهودي!

لم يكن اليهود طارئين على كيان الدولة العثمانية، ولم يكونوا جالية مجردة محدودة النفوذ تعيش على هامش التاريخ العثماني كما يتصور البعض، فالسلطنة العثمانية نتيجة توسعها واحتلالها للعديد من الدول والأقاليم اجتمعت لديها العديد من الأعراق والأديان، وكوّنت شعوبًا مختلفة تحت سلطة العثمانيين ونفوذهم واحتلالهم.

لقد كان اليهود جزءًا أصيلًا من البنية الإدارية والتجارية والسياسية وحتى الأمنية العثمانية، وأقرب تفسير لحالة التصالح والتقارب بين السلاطين العثمانيين واليهود، هو أن العرقين التركي واليهودي وجدًا نفسيهما في بحر من العرب المسلمين، ولديهما نفس الأطماع والتعالي ولذلك اتحدا وتحالفا لمقاومة الانجراف خلف الثقافة العربية الطاغية.

احتل العثمانيون أجزاء واسعة من العالم العربي، إلا أنهم تعاملوا معها بالتعالي والقسوة، ونظروا إلى العرب كأنهم تابعين ورعايا وطبقة أقل منهم، ولم ينظروا إليهم باعتبارهم إخوة وشركاء في الدين والوطن، كانت عنصرية وطبقية مقيتة حددت مسار العلاقة لخمسمائة عام من التجهيل والتفقير المتعمد وإبعادهم عن مراكز السلطة ومفاصلها الحيوية.

في المقابل كان تعظيم دور اليهود وتقريبهم وتدليلهم واضح جدًّا داخل الدولة العثمانية، فالسلطان محمد الفاتح – على سبيل المثال – كان يرسل الرسائل والمبعوثين للجاليات اليهودية في أوروبا عارضًا عليهم الاستيطان في الأراضي العثمانية، مع منحهم امتيازات وضمانات خاصة إضافة إلى الجنسية العثمانية التي تعطيهم حق المواطنة في التملُّك والتجارة والعبادة، وهو ما أدى فيما بعد إلى استيطانهم المكثف في فلسطين كونهم عثمانيين يحق لهم التملك والسكن في جزء من الأراضي العثمانية، ثم تحوّلوا فيما بعد إلى رأس جسر استقطب اليهود من جنسيات غربية قدموا إلى أبناء عمومتهم من اليهود العثمانيين، واستوطنوا معهم في المدن الفلسطينية.

واستطاعت الجالية اليهودية العثمانية الانغماس داخل محاضن المال والصناعة والصيرفة العثمانية، وسمحت لهم السلطنة بالتعاملات الربوية المحرمة على غيرهم، مما حولهم إلى سلطة مالية ضخمة تحكمت في أدوات التمويل والتجارة ومنحتهم نفوذًا هائلًا لم يكن ليتحقق لغيرهم لولا عناية السلاطين بهم.

واستطاع اليهود العثمانيون التغلغل إلى مفاصل الدولة حتى وصلوا إلى البلاط السلطاني والجيش والجهاز السياسي، وأضحو مقربين جدًا من كثير من السلاطين.

لقد كان اليهود الذراع اليمنى غير المرئية للسلاطين، فهم مستشاروهم وأطباؤهم الخواص، ومن أشهرهم جوزيف هامون الطبيب الخاص للسلطان بايزيد الثاني، ومن بعده السلطان سليم الأول وكان بجانب هؤلاء السلاطين في كل أوقاتهم، يطببهم ويحافظ على صحتهم، كما كانوا مديري الأموال وصانعيها في الاقتصاد والسياسة، وهم جسر العلاقة مع المحاضن اليهودية في العواصم الأوروبية، وهم رسلهم إلى الساسة الغربيين.

كما كان الاختراق اليهودي للعثمانيين ثقافيًّا أيضا، فقد ولدت الصحافة اليهودية في عصر السلطان عبد المجيد، وجاءت صحيفة “لادينو” المنشورة في إزمير عام 1843م، أولى تلك الوسائل التي استخدمت لتمرير الأفكار والثقافة اليهودية وتعزيزها، بعده بعشر سنوات تقريبا صدرت في إسطنبول صحيفة يهودية أخرى تحت اسم  “ضوء أبناء إسرائيل”، لتتلوها جريدة يومية هي “الجورنال الإسرائيلي” التي أسسها “بهزكيل جاباي” عام 1860م، ثم أتى السلطان عبد المجيد متوجًا تلك العلاقة مُصدرًا أمره بفتح المطبخ “القاشري” اليهودي في مدرسة الكلية العسكرية لخدمة الطلبة اليهود، وأمر كذلك بعدم حضور طلاب اليهود يوم السبت المقدس عندهم.

واستفاد العثمانيون من تلك العلاقة مع أصدقائهم اليهود والحركة الصهيونية في تخفيف الضغط السياسي عليهم إثر مذابح الأرمن، وخلال الأزمة الاقتصادية العاصفة التي أنهكت بلادهم، واستطاع السلطان عبد الحميد عقد صفقة مع “تيودور هرتزل” مؤسس الحركة الصهيونية لبيع فلسطين تضمنت هبات مالية ضخمة من أثرياء اليهود ومن الحركة الصهيونية لتطفئ الديون الضخمة لدول التحالف، وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا وإسبانيا مقابل الاستيطان في فلسطين وهذا ما حصل.