أكثر ما خلَّفه العثمانيون في الحجاز:
الصَّمت الحضاري السَّحيق والقمع والتنكيل
إذا كان الحَمَلة الحقيقيون للإسلام قد فتحوا الأمصار وأسَّسوا لحضارات قائمة الذات في كل من العراق وإيران والشام والأندلس، فلأنهم اعتبروا هذه المناطق جزءًا لا يتجزأ من تربة الإسلام، وعملوا على إدماج أهلها حتى صاروا أشد دفاعًا عن الدين وهوية المسلمين.
على الجانب الآخر لم يكن جزاء الإحسان هو الإحسان، ولم يتشبَّع الأتراك ثقافة العرفان، فكان القوم الذين أنعم الله عليهم بالإسلام هم أشد بأسًا على أهله ومهبط وحيه. ورغم أنهم ادَّعَوا الخير والانتصار للدين، والدفع من أجل خير الإسلام والمسلمين، إلا أنهم أفسدوا ولم يُصلِحوا وأهلكوا الحرث والنسل انتصارًا لعِرق ادَّعى الإسلام من أجل ذبح أهله، وأعلن الإيمان من أجل استباحة أرضه، ولم يَردَعه دين، ولم يُوقِفه خُلق، فجعل من مهبط الوحي فضاءً للسلب والنهب والقتل والتنكيل، ليرسم صورة قاتمة عن التواجد التركي في بلاد الإسلام.
شكَّل التعامل الاستعلائي التركي تجاه العرب مقدمات لمراكمة حالة الرفض للاستعمار العثماني بالجملة، وخلق رِدَّة فِعل عكسية تجاه هذا الاحتلال الذي أراد أن يمسح الهوية العربية للمنطقة، وهو ما فضح حقيقة المشروع العرقي الذي استغل الدين من أجل أهداف التوسع والانتشار، وليس لأهداف البناء والإعمار.
وإذا كانت المواجهات بين العرب والأتراك حتمية خلال القرن الماضي، فإن مقدماتها كثيرة ومتعددة، انطلاقًا من “منع العرب عن التكلم باللغة العربية وإجبارهم بالتحدث باللغة التركية.. وتراجُع الأوضاع الاقتصادية وانتشار الفقر بين العرب، بينما كان حُكام وأعيان الدولة العثمانية يستغلون خيرات البلاد العربية ويتمتعون بها، وهو ما شلَّ النهضة العربية في النصف الثاني من القرن 19، وتسبَّب في خَلْق ثغرة كبيرة في التطور العلمي والفكري والاقتصادي ما بين الدول العربية والدول الأوروبية”.
نَشط العثمانيون في محاولة تتريك العرب من خلال مدارسهم التي فشلت فشلاً ذريعًا أمام الرفض العربي في الحجاز
ويمكن القول أن التغيرات السياسية التي ضربت إسطنبول لم تغيِّر من العقيدة الإقصائية للأتراك تجاه العرب، بل أخذ هذا الحقد شكلاً مؤسساتيًّا، فقد “نشطت في هذا العهد الدعاية الطورانية نشاطًا مشهودًا، فصدرت في الآستانة كتب تركية مختلفة حملت مطاعن جارحة في عظماء الإسلام العرب، وقام خطباء الترك يدعون إلى نبذ كل ما هو عربي، وإحياء كل ما هو طوراني”.
لقد شكَّل اللسان العربي عقدة للعثمانيين، وعائقًا أمام شرعنة خلافتهم المزعومة، وبالتالي فقد جعلوا من القضاء على اللغة العربية إنهاءً للتفرد العربي بالفهم والاستيعاب والتفكيك والاستنباط، الذي جعلهم المؤتمَنين على الرسالة، والحاملين لعِظَم هذه الأمانة.
وهنا نسجل أن محاولات تتريك القبائل العربية قد وجدت طريقها إلى المناطق التي أخضعها الأتراك لحكمهم، ووصلت بهم الجرأة إلى محاولة طمس معالم اللغة العربية حتى في قلب الجزيرة العربية، بل وفي مكة المكرمة، تلك البقعة الطيبة التي نزل فيها الوحي على الرسول الكريم بلسان عربي فصيح.
في هذا الصدد قام الأتراك ببناء “مدرسة على الطريقة الحديثة (المدرسة الرشيدية)؛ لتعليم اللغة التركية والرياضيات والتاريخ، ونُدِب للتدريس فيها بعض الأتراك… وكانوا يُلقِّنون دروسهم باللغة التركية، حتى إن قواعد اللغة العربية كانوا يشرحونها باللغة التركية، وقد قيل يومها: إن غرض الأتراك من إنشائها هو تتريك العرب”.
من التتريك إلى التجويع، ومن القمع إلى الترحيل، هكذا عاش العرب تحت نير استعمار تفنَّن في أساليب الترهيب والتغريب، ووصل الاستعلاء ومحاولات الاستعباد إلى محاولة طمس كل ما هو عربي، سواء تعلق الأمر باللسان أو بالإنسان، وذلك من خلال توطين اللغة التركية في البلاد وإخلاء الأرض من العباد، وهنا سجَّلت كتب التاريخ كيف “اشتدت عزمة فخري باشا على ترحيل أهل المدينة بعسف ما بعده عسف، رحَّلوا امرأة وابنتَيها وتركوا أباهم في المدينة يهرب إلى ينبع، ما سألوا كيف تعيش الأم وبناتها في الشام، ومن يتولى الرعاية، ماتت الأم، وضاعت البنت، ورجعت إلى المدينة بنت وحدها، فسألوها عن أبيها في ينبع وقد وصلت بالباخرة مع أهل المدينة، عرفوا أباها، فسلَّموها إليه”.
إن واقع الحال الذي عاشه العرب تحت الحكم العثماني جعلهم يستنهضون الهمم، ويتداولون واقع الحال، خاصة بعد انفتاحهم على باقي الأجناس والثقافات، وعلى إثر ذلك “استبان العرب مبلغ ضياع حقوقهم في ظل دولة لا تحفل إلا بكيانها الخاص، وعنصرها الحاكم، وتسلُّط خليفتها المطلق، وتحت الضغط والقمع كان لزامًا أن يحدث الانفجار كنتيجة حتمية ومآل طبيعي لأية سياسة قمعية لم تَرعَ في العباد إلًّا ولا ذِمَّة، ورأت في الإسلام جسرًا نحو التوسع، والعربية عائقًا أمام شرعنة الاحتلال التركي الأعجمي.
لقد خرج الاستعمار التركي من البلاد العربية كما دخل، حتى إنك لا تكاد تجد له الآن أثرًا، فلم يكن العثمانيون أهل حضارة وبناء، وإنما قوم تخريب وهدم، لتعيش البلاد العربية تحت الاحتلال العثماني حالة من “الصمت الحضاري السحيق” لم تخرج منه الأمة إلا بعد تضحيات سطر فصولها عشرات الآلاف من الشهداء.
- أمين سعيد، أسرار الثورة العربية الكبرى (بيروت: دار الكاتب العربي، د.ت).
- أحمد السباعي، تاريخ مكة.. دراسة في السياسة والعلم والاجتماع والعمران (الرياض: مكتبة العبيكان، 1999).
- محمد حسين زيدان، ذكريات العهود الثلاثة (بيروت: دار جداول، 2011).