مراد الثالث كرر خيانتهم مع الصفويين

استخدم العثمانيون مع الكُرد سياسة

"وخز الإبر"

انتهك الأتراك العثمانيون حقوق الشعب الكردي، ولم يقف هذا الانتهاك عند احتلال أراضيهم واستغلالهم في تقوية دولتهم ثم الانقلاب عليهم والتنكيل بهم، بل تعدى إلى درجة التضحية بحلفاء الأمس وتركهم لوحدهم يواجهون آلة الإرهاب الصفوية، خصوصًا في عهد العثماني مراد الثالث. ولعل الجغرافيا وضعت الشعب الكردي بين قوتين استعماريتين حولت أرضهم إلى مسرح عمليات حربية أسوأ نتائجها تدمير العديد من المدن والقرى الكردية.

وعبّر عماد عبد السلام رؤوف في كتابه “دراسات وثائقية في تاريخ الكرد الحديث وحضارتهم” عن الفترة المهمة في تاريخ العلاقات الثلاثية بين العثمانيين والصفويين والأكراد بقوله: “فهذه المرحلة المبكرة من تاريخ بابان، ظلت بعيدة عن تسجيل المؤرخين واهتمام الكتاب والرحالين، ولولا ما نقرؤه في الشرفنامه لطوى النسيان مرحلة تاريخية تقدر بنحو ثلاثة قرون في أقل تقدير”.

وبالرجوع إلى الوثائق التاريخية المعتمدة، نجد أن العثمانيين والأكراد دخلوا في تحالفات براجماتية فرضتها السياقات الجيوستراتيجية للمرحلة وذلك بغرض دفع هجمات الصفويين من جهة، وأيضا رغبة سلاطين آل عثمان في تقوية الجبهة الداخلية في ظل تمرد التركمان ورفضهم الخضوع لمنطق الدولة من جهة أخرى. وقد استطاع العثمانيون حسم حربهم ضد الصفويين في معركة جالديران سنة (1514) بفضل المساندة القوية للأكراد الذين حاربوا إلى جانبهم، غير أن هؤلاء تنكروا إلى كل هذه التضحيات وقسّموا كردستان بينهم وبين الصفويين.

تعاطى العثمانيون ببرود مع محنة الأكراد في مواجهة وحشية الصفويين.

من جانب آخر، رأى الأكراد في العثمانيين خير حليف ضد أطماع تركمان الآق قوينلو (الخروف الأبيض، السنة) وأيضا القرة قوينلو (الخروف الأسود، الشيعة)، اللذان كانا يتحكمان في مساحات مهمة من أراضي كردستان، بل عبر زعيم الآق قوينلو، آنذاك حسن الطويل عن رغبته في تتريك جميع القبائل الكردية وتوحيد التركمان تحت مظلة سياسية واحدة عاصمتها ديار بكر. 

في هذا السياق، كان من حسنات التنسيق العثماني/الكردي اقتناع سلاطين الدولة العثمانية بالسماح للأكراد بتسيير شؤونهم بنوع من الاستقلالية عن الإدارة المركزية، وهو ما كان يمثل أنموذجًا متقدمًا للحكم الذاتي الذي سيظل مطلبًا ثابتًا للأكراد إلى يومنا هذا، وهو المطلب الذي يواجه، منذ عقود طويلة، برفض قاطع من حكام أنقرة الذين يريدون إخضاع الكرد بقوة الحديد والنار، بعيدًا عن أي انفتاح أو رغبة لتلبية مطالب الأكراد المشروعة بالنظر إلى خصوصية الشخصية والثقافة الكرديتين.

ويمكن القول بأن حالة “السلام الهش” التي ميزت تعامل بعض سلاطين الأتراك مع الأكراد ستعرف نهايتها مع تولي السلطان العثماني مراد الثالث للحكم سنة (1574)، وهو ما شكل قطيعة مع مرحلة التعايش العثماني/الكردي رغم الأهمية الاستراتيجية لمنطقة كردستان. وهنا نجد أوليا جلبي يقول في كتابه “رحلة إلى مصر والسودان والحبشة” ما نصه: “وأهل الولايات يسمون الحاكم منهم الخان… ولولا وجود كردستان كسد بين آل عثمان والفرس لما تحقق الاستقرار لآل عثمان لأن الفرس خصم عتي شجاع”.

الجدير بالذكر أن سياسة السلطان مراد الثالث جاءت لتكمل فصول المعاناة التي عاشها الأكراد، قبل ذلك، في مواجهة دموية إسماعيل الصفوي الذي نكل بالأكراد وكان يرى فيهم عدوًا عقديًا لا يؤمن جانبه. وحول هذه النقطة يقول محمد أمين زكي في كتابه “خلاصة تاريخ الكرد وكردستان من أقدم العصور التاريخية حتى الآن”: “وكان عهد الشاه إسماعيل وسيره في الكرد، مثل عهد تراكمة الآق قوينلية عهد ظلم وعدوان شديدين، لأن الكرد كانوا من أهل السنة فكان لا يأمن جانبهم ولا يثق بهم، بخلاف التركمان الذين كانوا من غلاة الشيعة والرافضة فلهذا لم يكن يدع فرصة من غير أن ينتهزها ويلحق فيها بالأكراد أذى كبيرًا”.

في مقابل ذلك، يبدو أن العثمانيين تخوفوا من تحقيق الأكراد استقلاليةً مطلقة عن إسطنبول في ظل الأوضاع السياسية التي كانت تتجه نحو “لا مركزية” موَسَّعة في تعامل الأكراد مع حكم سلاطين آل عثمان، خاصة أن الأكراد أثبتوا كفاءة قتالية عالية في حروب العثمانيين وعلى رأسها حروب ضم جزيرة قبرص، حيث تشير الروايات إلى أنهم كانوا يشكلون مركز ثقل الجيش العثماني. هذا الطرح يؤكده عماد عبد السلام بالقول: “إن وجود والي شهرزور بين أكبر قادة هذه الحملة يدل على أن الأمراء الكرد ومقاتليهم كانوا يعملون تحت إمرته، وأنهم كانوا مركز الثقل الرئيس ليس في فتح الجزيرة (يقصد جزيرة قبرص)، وإنما في المحافظة عليها حينما أصبح واليًا عليها دون سائر القادة الآخرين”.

هذه العلاقة الملتبسة بين المركز والمحيط يصفها محمد أمين قائلاً: “والخلاصة أن جميع الأكراد دخلوا حكم العثمانيين طواعية ورضى… فنالت هذه التدابير والأنظمة التي ترمي إلى تقدم البلاد في ظل الإمارات الكردية والإدارات المحلية المشمولة بالسيادة العثمانية”.

على المستوى الجيوستراتيجي، تزامنت فترة حكم مراد الثالث بتدهور الوضع الأمني داخل حدود الدولة الصفوية، خصوصًا مع تغول القزلباش وتحكمهم في ناصية القرار السياسي الصفوي. هذا المعطى دفع بالعثمانيين إلى تحريض الأكراد على شن هجمات على الأراضي الصفوية رغبة منهم في تقليص حدود الجار العدو وتوسيع حدودهم. هذا الطرح يؤكده عباس إسماعيل صباغ في كتابه “تاريخ العلاقات العثمانية الإيرانية” حيث يقول: “وفي غمرة هذه الاضطرابات، قام خسرو باشا وحرض الأكراد للهجوم على أراضي الدولة الصفوية”.

غير أن تشجيع الأتراك للأكراد للهجوم على الصفويين دفع بهؤلاء إلى الرد على هذه الهجمات والتنكيل بالأكراد في مجموعة من المعارك من بينها تلك التي خاضها الصفويون لاسترجاع منطقة كَيلان سنة (1591)، كونها أحد أهم مناطق إنتاج الحرير، دون أن يحرك العثمانيون ساكنًا، حيث اكتفى مراد الثالث بمراسلة الشاه عباس للعفو عن الخان أحمد حاكم كيلان، وهو الطلب الذي رفض الشاه الصفوي الذي فطن لمطامع العثمانيين في منطقة كيلان.

وتماشيًا مع ما ذُكر، غض العثمانيون في عهد مراد الثالث الطرف عن الهجمات الصفوية التي استهدفت الأراضي الكردية، وذلك بغرض تحقيق هدفين استراتيجيين. الأول إنهاك الأكراد في مواجهة الصفويين وتحميلهم مسؤولية الدفاع عن أراضيهم باعتبار أن مسؤولية الدفاع “ذاتية”، ومن ثم فإن العثمانيين غير ملزمين -في نظرهم- بالدفاع عنهم وعن حدود ولاياتهم. والهدف الثاني هو استغلال هذا التحرك الصفوي، الضعيف مقارنة بقوة الأتراك العثمانيين في ذلك الوقت، ومن ثم إجبارهم على توقيع معاهدة لرسم الحدود بين الطرفين بما يخدم الأهداف التوسعية للدولة العثمانية.

ضحى الترك بأصدقائهم الكرد وتركوهم ضحية ينكل بهم بقوة وقسوة.

يبدو أن الاستراتيجية العثمانية نجحت في توسيع حدودها على حساب القبائل والعشائر الكردية من خلال اتفاقيات تقسيم الأكراد بين القوتين الإمبرياليتين، وهو ما أجبر أحلام الأكراد على المحافظة على مناطق تدار وفق النموذج السياسي للحكم الذاتي. وحول هذه النقطة يقول محمد أمين في المرجع نفسه “وفي سنة (998ه/1589م) زحف سنان باشا جغالة زاده من بغداد على إيران واجتاحها حتى همدان، مما اضطر الشاه عباس إلى انتداب الميرزا حيدر للسفر إلى الأستانة وطلب الصلح مع العثمانيين، لوضع حد للحروب الطويلة التي دارت معاركها بين الطرفين عدة سنين، فعقدت معاهدة صلح في نوروز سنة (998ه/1590م) فكان من مقتضاها خضوع ولايات آذربيجان، شيروان، كرجستان، لرستان، شهرزور، للدولة العثمانية وإلغاء مذهب الشيعة والقضاء عليه في جميع البلدان”.

إجمالا يمكن القول بأن مراد الثالث تقاطع مع امتياز الحكم الذاتي الذي كان ممنوحًا للأكراد، ومنع عليهم التوسع على حساب الأراضي التركية مع تحريكهم لإنهاك الصفويين من خلال معارك متقطعة فيما يشبه استراتيجية “الوخز بالإبر”، ليستفيد، بعد ذلك، من ردة فعل الصفويين الذين دمروا المناطق الكردية وأعطوا بذلك مسوِّغا للسلطان العثماني للتدخل وإجبار الصفويين على التفاوض وفق شروطه ومن أهمها رفع يدهم عن التركمان الشيعة الذين أخضعهم بالقوة للحكم المركزي التركي بعدما كانوا يشكلون تهديدًا جديًّا على الأمن القومي العثماني. وبذلك استطاع مراد الثالث ضرب ثلاثة عصافير بحجر واحد: إضعاف الأكراد، إخضاع التركمان وفرض شروطه الامتيازية على الصفويين.

قسّم العثمانيون كردستان مع الصفويين متناسين ملاحم الكرد في جالديران.

  1. أوليا جلبي، رحلة إلى مصر والسودان والحبشة، ترجمة: حسين مجيب المصري (القاهرة: دار الآفاق العربية، د.ت).

 

  1. عباس إسماعيل، تاريخ العلاقات العثمانية الإيرانية: الحرب والسلام بين العثمانيين والصفويين (بيروت: دار النفائس، 1999م).

 

  1. عماد عبد السلام رؤوف، دراسات وثائقية في تاريخ الكرد الحديث وحضارتهم (دمشق: دار الزمان للطباعة والنشر والتوزيع، 2012م).

 

  1. محمد أمين زكي، خلاصة تاريخ الكرد وكردستان من أقدم العصور التاريخية حتى الآن، ترجمة: محمد علي عوني، ط2 (بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة، 2005).