الباطنية وتغلغلها في المجتمع العثماني

يُسرِف تيار الإسلام السياسي في الحديث عن مسألة الخلافة العثمانية، وأن هذه الخلافة هي آخر مراحل الخلافة الإسلامية، بل ويُضفي عليها- وعلى العصر العثماني كله- لونًا من ألوان القداسة دون النظر إلى الوجه الآخر، ونقصد به هنا أن هذا الحديث عن الخلافة هو في الحقيقة خطاب أيديولوجي نُخبوِيٌّ، يُخفي الوجه الآخر لما يسمى بالدين الشعبي، والمقصود به الحالة الدينية عند قطاعاتٍ واسعة في المجتمع التركي العثماني آنذاك.
هنا سنجد صورة أخرى غير مسألة الخلافة، وربما غير الإسلام السُنِّي بشكله التقليدي، ونقصد بذلك انتشار فرق تُعرف بـ”الباطنية” في أوساطٍ واسعة في قلب المجتمع التركي العثماني، ولعل أهم هذه الحركات ما عُرِف في التاريخ العثماني بـ”ثورة الشيخ بدر الدين”، فمن هو الشيخ بدر الدين، وما الأحداث التي اشتهرت بعد ذلك بثورته؟
ثورة الشيخ بدر الدين:
“الشيخ بدر الدين” كان من كبار العلماء العثمانيين، ووصل إلى تولي وظيفة رسمية كبرى، حيث كان قاضيًا؛ إذ تولى منصب قضاء العسكر عند “موسى چلبي” ابن “السلطان بايزيد الصاعقة”.
وكانت أفكار “الشيخ بدر الدين”، التي طرحها في كتابه الشهير “واردات”، تعتمد أساسًا على فكرة المهدي المنتظر، هذا فضلاً على السَّير نحو اتجاه توفيقي- أو تلفيقي- بين الأديان السماوية الثلاثة: اليهودية والمسيحية والإسلام. وتطور الأمر إلى توظيف ذلك سياسيًّا لتصبح حركة سياسية تسعى إلى السيطرة على الحكم.
وقد شبَّت ثورة من أتباع الشيخ بدر الدين في النصف الأول من القرن الخامس عشر بزعامة شيخين من أتباعه هما: “بور كلوجه مصطفى”، والثاني “طورلاق كمال”، ويتضح من المصادر أن “بور كلوجه مصطفى” كان مسيحيًّا اهتدى إلى الإسلام، وأن “طورلاق كمال” كان يهوديًّا دخل إلى الإسلام.
ورغم قمع هذه الثورة، استمرت أفكار الشيخ بدر الدين حية، بل يَرِد في مصادر القرن السابع عشر عبارة “أتباع الشيخ بدر الدين”، وهم أنفسهم “العلويون” أو “القزلباش” أي أصحاب الطواقي الحُمر.
جماعة الحروفية:
ومن أهم الجماعات الباطنية الأخرى في التاريخ العثماني، الجماعة التي عُرفت بـ”الحروفية”، وهي جماعة يؤكد المؤرخ التركي الكبير “فؤاد كوبريلي” أن أصلها إيراني؛ حيث ظهرت أولاً في أذربيجان ثم انتقلت إلى تركيا. ويرجع سبب تسميتها بالحروفية نظرًا إلى طبيعة فكرها؛ إذ كانت تتجه نحو استلهام المعاني الخاصة الخفية للحروف، وامتزاج ذلك بفلسفة وحدة الوجود.
واحتضنت بعض الجماعات الصوفية في الأناضول والروملي وإستانبول أذكار هذه الجماعة، وانتشرت انتشارًا كبيرًا، حتى أن كتاب “الشقائق النعمانية” يذكر أن أفكار الحروفية قد وجدت طريقها إلى القصر العثماني نفسه، لا سيما في زمن السلطان الفاتح، ويرى البعض أن الشيخ “عثمان بابا”- أحد كبار مشايخ هذه الطريقة- قد استطاع تجنيد بعض كبار رجال البلاط العثماني في صفوف هذه الجماعة الباطنية.
وما تزال المكتبات التركية تحتفظ حتى الآن بعدة كتب توضح أفكار هذه الجماعة، لا سيما المؤلفات التي وضعها “فضل الله استراباذي”، وكذلك أشعار الشاعر المشهور “نسيمى” الذي طاف الأناضول مروِّجًا لأفكار الحروفية، واستمر ديوانه الشعري مُلهِمًا بعد ذلك للعديد من الفرق الباطنية مثل: “القلندرية” و”البكتاشية”.
ويرى بعض المؤرخين أن القرن السادس عشر- الذي يعتبره البعض القرن العثماني، وذروة مجد الدولة العثمانية- قد شهد في الوقت نفسه تحولاً خطيرًا يعتبره البعض من الأحداث الجسام في التاريخ الديني الاجتماعي للدولة العثمانية، ولا زالت آثاره ماثلةً حتى اليوم، وهذا الحدث هو- بحسب ما تذكره الوثائق والمصادر التاريخية العثمانية- ظهور “الرافضية” أو “القزلباشية”، أو “العلوية” بمصطلح الجماعة ذاتها، مما أدى إلى حدوث التطور الكبير وهو انقسام الإسلام الشعبي في تركيا إلى: السُنية”، و”القزلباشية” أي الباطنية.