العثمانية الجديدة:
توجه السياسة التركية في القرن الحادي والعشرين
يجمع الباحثون على أن الحلم الأكبر لتركيا منذ مطلع القرن الحادي والعشرين كان الدخول إلى الاتحاد الأوروبي، هذا الحلم الذي يتوافق مع العلمانية الأتاتوركية- نسبة إلى آتاتورك- وأيضًا يتفق مع مشروع النهضة الاقتصادية لتركيا، بحيث تصبح تركيا نموذجًا اقتصاديًا جديدًا، بعد نموذج النمور الآسيوية. لكن هذا الحلم تبدد سريعًا، مع مماطلة الاتحاد الأوروبي أثناء مفاوضات انضمام تركيا، وأيضًا نتيجة عدم قيام تركيا ببعض الإصلاحات المطلوبة على المستوى التشريعي والسياسي، هذا فضلاً عن مسألة تقسيم قبرص، والوجود التركي هناك.
عندئذٍ بدأت تركيا في إحداث تغيرات كبرى في سياستها الخارجية. وبدأ وزير خارجيتها آنذاك أحمد داود أوغلو في وضع أسس جديدة في استراتيجية السياسة الخارجية التركية، في الاتجاه شرقًا، بدلاً من التركيز على الغرب الأوروبي. ويذكر البعض أن الرؤية الجديدة لأوغلو تمحورت على النحو التالي: “أن الشرق الأوسط يشكل الحديقة الخلفية لتركيا، ودعا بلاده إلى لعب دور في هذه المنطقة”. وفي الوقت نفسه توافقت الرؤية التركية مع الرؤية الأمريكية لمنطقة الشرق الأوسط، حيث رأت أمريكا: “أن دور تركيا في المنطقة سيضعها في مواجهة إسلام إيران “الشيعي”، إسلامًا لا يقل عراقة عنه يغرف من إرث الدولة العثمانية”.
ويرسم إبراهيم قالين مستشار رئيس الوزراء التركي في عام 2012 ملامح السياسة التركية الجديدة، ويعطي المزيد من التفاصيل في هذا الشأن، في مقالة مهمة تحمل عنوانًا أكثر إثارة هو: “تركيا في الشرق الأوسط، بزوغ رؤية جيوسياسية مستقبلية جديدة”. وبدايةً ينظر قالين إلى تركيا نظرة توسعية، استنادًا إلى التاريخ العثماني، ويرى أن تركيا الآن: “بلد حديث أكبر من أن يكون مجرد وطن لأمة، وأصغر من أن يكون إمبراطورية”!! كما يؤكد قالين على التوجه العثماني الجديد لتركيا، وما يلعبه توظيف التاريخ في هذا الشأن: “أن تركيا لا تستطيع إدارة ظهرها للتاريخ أو الجغرافيا، وسواء كان ذلك نعمة أو نقمة عليها، فستظل تركيا في وسط الدوامات العالمية”. ويشير كذلك إلى حقيقة أن تركيا قد بدأت سياستها الإمبراطورية في هذا الشأن: “لقد بدأت تركيا لتوها في أن تسلك سلوك وريث الإمبراطورية الواعي بقدره الذي ما زالت قدرته على التخيل تحوم فوق كل من الأتراك والعرب والفرس والأكراد والبوسنيين والمقدونيين وغيرهم في محيطها الواسع”. هكذا تتحدد ملامح السياسة الخارجية التركية الجديدة، سياسة “العثمانية الجديدة”، وإعادة إحياء الزمن العثماني من جديد.
لكن هذه العودة “العثمانية” إلى العالم العربي كان لا بُد التمهيد لها على عدة محاور، مثل التمجيد والقداسة للتاريخ العثماني، كمقدمة للتأسيس لقوة ناعمة قادرة على اختراق اللاوعي الجماعي للعرب، ومن ثم إيجاد موطئ قدم لها في المنطقة، على نهج الإستراتيجية الإيرانية، والتي نجحت في بعض العواصم العربية. الأمر الآخر هو دعم تنظيمات الإسلام السياسي في المنطقة من أجل الوصول إلى السلطة في البلدان العربية، ومن ثم تأسيس كيانات تابعة أيديولوجيًا للإخوان وسياسيًا لأنقرة.
من هنا تبدأ سلسلة متصلة من الكتابات التي تمجد التاريخ العثماني، وتضع هالات القداسة على رؤوس رموزه. والأمر المثير هذه المرة أن تصدر هذه الكتابات باللغة العربية، وبأيدي العديد من الكتاب العرب ليسهل تمرير الأمر إلى الرأي العام العربي. ومن الأمثلة في هذا الشأن؛ يصدر العراقي عابد توفيق الهاشمي كتابًا عن التاريخ العثماني، يحمل عنوانًا مثيرًا هو: “الخلافة العثمانية، دولة القدر”. والغريب في هذا الشأن أن الهاشمي ليس من المتخصصين في التاريخ، وبالقطع ليس متخصصًا في التاريخ العثماني. كما أنه يضع عنوانًا دينيًا مثيرًا لكتابه، فبدلاً من أن يعنوِّن كتابه “الدولة العثمانية” يضع عنوانًا دينيًا “الخلافة العثمانية”، وبذلك يضع هالة “الخليفة” على رأس السلاطين العثمانيين. والأكثر من ذلك أنه يرى فيها “دولة القدر”. لكن المثير هنا ليس طبيعة المعالجة التي يقدمها الهاشمي، بخلط التاريخ بالأسطورة، لكنه في مقدمة كتابه يصنع أسطورة جديدة هي أسطورة معاصرة بشكل أقرب ما يكون إلى أن الخليفة المنتظر موجود! ففي مقدمة الكتاب يهدي الهاشمي كتابه إلى الرئيس التركي أردوغان الذي يرى فيه: “أجرأ رئيس دولة مسلمة، غيور”، بل ويرى فيه وفي تركيا: “الامتداد الروحي للخلافة العثمانية”! وعندما نبحث في سيرة الهاشمي جيدًا، ندرك السبب وراء مثل هذه الكتابات؛ إذ يعتبر الهاشمي أحد أهم رموز تيار الإسلام السياسي في العراق.
الأمر الآخر ضمن ملامح السياسة الخارجية التركية الجديدة المعروفة بالعثمانية الجديدة هو تصدير النموذج التركي عبر حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا ليصبح هو النموذج الملهم لحركات الإسلام السياسي في العالم العربي وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين. وهذا ما يصرح به الباحث التركي البر يلماظ دادا: “هل يمكن أن تكون تجربة تركيا الفريدة من نوعها في التحول الديمقراطي منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، نموذجًا يحتذى به لدول الشرق الأوسط، لا سيما للإخوان المسلمين والأطراف السياسية الفاعلة الأخرى في المنطقة؟”. هكذا يتحدد دور الأذرع الجديدة لسياسة عثمنة المنطقة العربية.
ويؤكد الباحث التركي كمال كيرشجي حدوث التواصل بين تركيا ورموز تيار الإسلام السياسي في المنطقة العربية، لا سيما رموز حركة الإخوان المسلمين، واستلهام هؤلاء للنموذج التركي: “في الآونة الأخيرة أظهرت شخصيات بارزة كزعيم المعارضة التونسية راشد الغنوشي، وطارق رمضان، حفيد حسن البنا زعيم جماعة الإخوان المسلمين، أهمية تركيا كنموذج، أو مثال للتحول في العالم العربي”. كما يشير البعض الآخر إلى التصريح الذي أدلى به القيادي الإخواني آنذاك عبد المنعم أبو الفتوح في أعقاب 25 يناير 2011: “أن الإخوان المسلمين في مصر سيشكلون حزبًا على غرار حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا”، وهو ما تم بالفعل آنذاك.
ومن فلسطين نجد نموذج الباحث بشير نافع الذي يشيد بفترة التاريخ العثماني: “لا يوجد شعبان في الشرق الأوسط يتداخل تاريخهما معًا مثل الشعبين العربي والتركي، فقد عاشا كلاهما في كنف الدولة العثمانية لقرون عديدة، واصطبغا بالثقافة العثمانية والحياة العثمانية المتدينة التي أثرت في كل الشعوب الإسلامية داخل الإمبراطورية العثمانية”. ولا يكتفي بشير نافع بالإشادة بالتاريخ العثماني، وتوظيفه في دعم العلاقات التركية- العربية حاليًا، بل يشيد بتجربة حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، بل يشيد بتجربة حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، ويجعلها نبراسًا لكل الشعوب العربية: “لقد انبهر العرب مثلما انبهر كثيرون في العالم، بنجاح حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية”.
هكذا عملت السياسة العثمانية الجديدة على الترويج لسياسة أردوغان، التي تنظر إلى العالم العربي على أنه مجرد الحديقة الخلفية لها، من خلال تمجيد تاريخ الدولة العثمانية، وتصدير النموذج التركي، لا سيما نموذج حزب العدالة والتنمية الحاكم، من خلال أذرعها في المنطقة وهم تيار الإسلام السياسي.
هندست إلى عنوان عريض يقضي بالتوجه نحو الحديقة الخلفية: الشرق الأوسط.
- جمال واكيم: أوراسيا والغرب، والهيمنة على الشرق الأوسط، بيروت، 2016.
- إبراهيم قالين: تركيا في الشرق الأوسط، بزوغ رؤية جيوسياسية مستقبلية جديدة، مجلة رؤية تركية، أستانبول، ربيع 2012.
- عابد توفيق الهاشمي: الخلافة العثمانية، دولة القدر، أبو ظبي، 2012.
- البر دادا: الانتفاضات العربية ومناقشة النموذج التركي، مجلة رؤية تركية، أستانبول، صيف 2012.
- كمال كيرشجي: تأثير تركيا الواضح وتحول منطقة الشرق الأوسط، مجلة رؤية تركية، أستانبول، ربيع 2012.
- بشير نافع: العرب وتركيا الحديثة، قرن المفاهيم المتغيرة، مجلة رؤية تركية، أستانبول، ربيع 2012.