جرائم العثمانيين في مكة المكرمة:
سلب ونهب واستباحة للأهالي وللممتلكات
الاستعمار هو الاستعمار، مهما حاولوا أن يُلبِسوه لبوس الدين، أو قناع التحرر، أو غطاء التدخل الإنساني، ومخطئ من حاول أن يُصوِّر الاستعمار العثماني على أنه “فتح إسلامي” وانتصار للدين، خاصة إذا كانت الرقعة التي أرادوا احتلالها هي مركز ثقل الإسلام والمسلمين ومهبط وحيهم وانطلاق دعوة نبيهم صلى الله عليه وسلم.
إن مثل هكذا ادِّعاء يطعن في صميم الاختيار الإلهي (وحاشا المولى عز وجل) وهو الأعلم أين يضع رسالته، وهو مَن يختار من يأتمنه على دينه، غير أن بعض المؤدلَجين، من منزوعي المادة الرمادية، لا يزالون حطبًا لأطماع توسُّعية ولا زالوا يشكِّلون ذلك الطابور الخامس الذي ينخر الجسد العربي، وفضلوا أن يكونوا عبيدًا لمشاريع أعجمية تعود أصولها إلى أزيد من خمسة قرون من الزمان حين حلم العثمانيون ببسط سيطرتهم على الحرمين الشريفين، وبالتالي امتلاك المشروعية الدينية إلى جانب السلطات الزمنية التي فرضوها بمنطق السيف ولغة الحديد والنار.
في هذا السياق لم تَقِلَّ اعتداءات الأتراك على مكة المكرمة فظاعةً ولا إجرامًا عمَّا قام به أبرهة الأشرم أو الحجاج بن يوسف الثقفي من استباحة حرمة البقاع المقدسة، رغم استماتة الأقلام المؤدلجة في محاولاتها اليائسة لطمس هذا التاريخ الأسود، حتى إنه ليُعيِيك البحث وأنت تحاول أن تضبط حقائق تاريخية معينة نتيجة حملة عنكبوتية الغرض منها مسح آثار الجرائم العثمانية وتقديمهم في صورة الفاتحين الذين ملؤوا الدينا عدلًا بعدما مُلئت جورًا.
لقد رأى العثمانيون في إخضاع بلاد الحرمين صك الشرعية لسلطانهم ومبرِّرًا لإخضاع البلاد العربية لملك الأتراك، كما رأوا فيه أيضًا مرتكزًا قويًّا للحديث باسم الأمة الإسلامية في مواجهة باقي الإمبراطوريات التي كانت تتقاسم معهم مصير العالم آنذاك، لذلك لم يكن احتلال مكة والمدينة لأمر من أمور الدين، وإنما لأمر من أمور الإمارة والحكم.
في هذا الصدد يكفي أن نشير ونذكر من لا يحتاج إلى تذكير ولن تنفعه ذكرى، إلى أن أي سلطان عثماني لم يقم، أو حدَّثَته نفسه بالقيام، بزيارة المشاعر المقدسة لأداء مناسك الحج مُحْتَجِّين بأعذار لا يقبلها الشرع ولا يتقبلها المنطق، وهو ما يقطع بأن الأتراك كانوا سبَّاقين للامتثال لفتوى أحد أقطاب الإخوان التي قال فيها “لا حاجة لله في الحج”.
لقد أبان سلاطين آل عثمان عن الكثير من البراغماتية السياسية التي ترتكن إلى الدين، وتستغله لخدمة أجندات السلطة والحكم، من خلال الادِّعاء بأن سليم خان هو أول من حمل لقب “خادم الحرمين الشريفين”، متناسين (عمدًا وليس جهلًا) بأن صلاح الدين الأيوبي قد سبقهم إلى هذا اللقب، وهو ما لا يشير إليه المتترِّكين إلا على استحياء.
على الأرض سطرت المراجع التاريخية صفحات مظلمة من مظاهر انتهاك الأتراك “لحرمة الحرمين”، وكيف قاموا باستباحة أموال وأعراض المكيين، بل ووصل بهم الأمر إلى المجاهرة بالفسق والفجور والرذيلة، وهو ما لم يقم به جميع الطغاة الذين سبقوهم.
فصول تاريخ الأتراك المظلم في مكة المكرمة سيبدأ مع وصول العساكر العثمانية إلى “بكة” بقيادة القبطان سليمان، باعتبارها نقطة عبور إلى اليمن لا غير، غير أن القوم أحدثوا “فسادًا بمكة، وعامَلوا أهلها بعنف وقاموا بالاعتداء على الممتلكات”. “التاريخ السياسي والحضاري لمكة…”ص 176).
في هذا الصدد عمد العساكر إلى أفعال شنيعة وأعمال منكرة من خلال الهجوم على بيوت أهالي المدينة، وطردهم من ديارهم، وإتلاف أمتعتهم والاستيلاء على مساكنهم، دون مراعاة لحرمة المكان، ولا لعهود ومواثيق السلطان.
ولقد رصدت كتب التاريخ (جار الله ابن فهد نموذجًا) وتحقيقات الباحثين والمؤرخين الثقات (د. طلال الطريفي) ممارسات الأتراك العثمانيين في حق أهل مكة المكرمة من امتهان الكرامة، وخيانة الأمانة، وانتهاج أسلوب الإهانة أمام مسلمين لا حول لهم ولا قوة، فما كان من هؤلاء إلا أنهم رفعوا أكف الضراعة يدعون على شرار الخلق الذين أذَلُّوا الناس بغير حق امتثالًا لحكام لا تربطهم بالمنطقة صلة ولا عِرق.
إن استباحة الأتراك للمقدسات وامتهان كرامة المكيين تؤكد لنا تلك القطيعة السلوكية بين العثمانيين وبين الشخصية الرئيسة للمسلمين الذين رأوا في استباحة المشاعر المقدسة من أكبر الكبائر، على اعتبار أنها أماكن يَحرُم فيها الاعتداء حتى على الحشرات، فما بالك بأُناس مسلمين مؤمنين مسالمين لم يَمتَشِقوا سيفًا ولا أعلنوا عصيانًا.
لقد تمادى الأتراك في الإساءة، وأكثَرُوا من الأذى، وجاهَروا بالفسق تجاه النساء، وقاموا بالسطو على المأكولات في السوق بثمن بَخْس، وفي بعض الأحايين مقابل لا شيء، وكأنهم الرهط الذين حدَّث بهم القرآن الكريم، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
لن يَسلَم من أذى الغزاة الطغاة بيت من بيوت التجار، ولا مساكن العائلات الكبار، ولا حتى الأطفال الصغار، فكان التنكيل والتنقيص يَطال الجميع، حتى وصل الأذى إلى ساحة الحرم الذي لا ينتهكه إلا مَن ليس له حظ من الدين، ولا أخوة جماعة المسلمين.
ولعل مظاهر الفساد والإفساد التي شهدتها مكة المكرمة خلال تلك الفترة لن تكون استثناءً في البنية السلوكية للأتراك العثمانيين -الذين سيلجؤون -بعد أربعة قرون من ذلك، وبالضبط سنة 1916م- إلى قصف الكعبة المشرفة، لينضافوا إلى قوافل من وُصِموا بعار الاعتداء على بيت الله الحرام.
لقد ارتأت العناية الإلهية أن تُهيِّئ لخدمة وحماية البيت الحرام، قومًا عاهَدوا الله على الدفاع عن حرماته بأموالهم وأبنائهم، أو يهلكون دون ذلك.. أولئك هم السعوديون خدام المشاعر المقدسة الذين لم يتاجروا يومًا بالحرمين، ولا استغلوهما في سياسة أو مصلحة، وإنما هو الواجب الشرعي، والالتزام الديني أمام الله أولًا، ثم أمام مليار ونصف مليار مسلم تهفو قلوبهم سنويًّا إلى البيت العتيق.