العثمانيون

في أول احتلالهم للحرم المكي الشريف عاثوا فيه فسادًا

عندما يتم الحديث عن جرائم العثمانيين في العالم العربي وتسلُّطهم عليه واحتلاله لابد من الإشارة إلى بعض ما وقع من حوادث مريعة من العساكر العثمانيين في الحرم المكي الشريف في القرن السادس عشر الميلادي، وبالأحرى بعد عشر سنوات من احتلال العثمانيين للحجاز في عهد السلطان سليم الأول، ومن بعده من السلاطين.

في سنة 932هـ (1526م) وقع حدث مؤسف يقف أمامه المؤرخ والكاتب في حيرة من أمره، ويتساءل كثيرًا: هل يُعقَل أن تقع مثل تلك الأمور من أولئك العساكر ومرؤوسيهم، ويمارسون الظلم والأذى لسكان حرم الله الآمن؟ وقد يجرنا ذلك إلى التساؤل: ما هي الأسباب التي جعلتهم يفعلون مثل ذلك التجاوز في بلد الله الحرام؟! فهل هو الجهل بدين الله، أو بحرمة الأراضي المقدسة؟ أم هي الجِبِلَّة المريضة التي اعتادوا عليها عند دخولهم لأي بلد ومدينة من تدمير وطغيان واحتلال ما ليس لهم به حق؟ ومهما كانت تلك الأسباب فهي غير مبرّرة إطلاقًا على ذلك الفعل، فالشواهد التاريخية كثيرة في المؤلفات والكتب عن تصرفاتهم وسلوكياتهم في معظم البلدان التي وَطِئَتْها أقدامهم ووقعت تحت تسلُّطهم وحكمهم جبرًا وبالقوة.

لذا لا يُكتَفى بأخذ التاريخ فقط من الأراشيف التركية ومن وثائقه فقط لنقل صور الحدث التاريخي، وإهمال ما يذكره المؤرخون المحليون والمعاصرون، الذين يعتبرون شاهدين على العصر عبر ما ينقلونه من وجهة النظر الواقعية، وليست وجهة النظر الرسمية، فالحقيقة مؤلِمة مظلمة، وعادةً لا يراد لها أن ترى النور وتظهر في العلن.

ولعل هذه الحادثة التي سنتطرق إليها هنا قد حالفها الحظ حين تم تدوينها من مؤرخين معاصرين للحدث، بل وشاهد عيان نقل لنا تفاصيل تلك الانتهاكات، والظلم الذي وقع في الحرم المكي، وعانى منه سكان مكة المكرمة.

فقد أرسل والي مصر العثماني والوزير الأعظم فيها إبراهيم باشا، وهو مملوك السلطان سليمان القانوني، جيشًا يقدَّر عدده بأربعة آلاف عسكري نظامي إلى جهة اليمن سنة 932ه(1526م)، بقيادة سلمان الريس لأخذها، ومددًا لمن سبقهم من العساكر، فوصلوا إلى ميناء جدة في شهر رمضان من تلك السنة، وصار العسكر بدايةً يتعرضون للقبائل العربية بين جدة ومكة المكرمة بالسرقة والنهب، فانقطعت بسبب ذلك الطرق والسبل، ومُنِعت عن مكة المكرمة المؤن والأرزاق، وحصل بسبب ذلك غلاء وصفه المؤرخ المكي علي بن تاج الدين السنجاري بقوله: “وصار العسكر يتعرضون للعرب بالنهب، فانقطعت المِيرة عن مكة بسبب ذلك، وحصل بها غلاء”.

ويذكر لنا مؤرخ مكة وشاهد العيان المعاصر للحدث نفسه جار الله ابن فهد الذي دوَّن بداية حديثه عن ذلك الحدث التاريخي بقوله: “وتوالى في هذا الشهر حوادث مؤلمة، وللقلوب مظلمة، فالله يُحِيلها عن المسلمين.. وفيها وصول عسكر الأروام إلى بندر جدة من البحر..”، ويُفهم من كلامه أن الصورة كانت قاتمة السواد من سوء ما وقع.

ويسرد لنا ابن فهد مشاهداته بالقول: “وفي يوم الأحد ثالث عشر الشهر (رمضان) ـ وصل بعض عسكر الأروام لمكة بأمر نائب جدة العلائي علي الشاووش الرومي.. فتشوَّش لذلك صاحب مكة الشريف أبو نمي وجميع أهلها خصوصًا، وقد عملوا بمكة أعمالًا شنيعة من هجوم على بيوت الناس، وإخراجهم منها مع حريمهم، ووضع أيديهم على امتعتهم وإتلافها، وسكنهم فيها عِوَضَهم، فيستغيث الناس فلا يجدون من يغيثهم إلا الله تعالى، وكثر ضررهم بذلك، وصار يدعو عليهم كل قاطن وسالك.. ثم إنهم تمادَوا بالأذى، وتجاهَروا بالفسق في النساء، وأخذ المأكولات من السوق بثمن بخس، وبعضهم لا يعطي شيئًا”.

وصل بعض عساكر العثمانيين لمكة، وعملوا أعمالًا شنيعة، من الهجوم على بيوت الناس وإخراجهم منها مع حريمهم، ووضع أيديهم على أمتعتهم وإتلافها، وسكنهم فيها.

ويبدو أن الشريف أبو نمي الذي تولى شرافة مكة المكرمة فيما بين عام 931ه/ 1525م- 947ه/1541م، قد انزعج منهم، وخرج إلى وادي الجموم، خوفًا من حصول فتنة بين الأروام وعسكره، حتى قال الشريف: “لا أدخل مكة ما دام العسكر المجهَّز مع سلمان القبطان فيها”.

وقد أثبت ذلك الأمر وأكَّده المؤرخ السنجاري بقوله: “ثم وصلت طائفة من العسكر إلى مكة، وأخرجوا الناس من بيوتهم، وسكنوها، وكثر آذاهم”، ويقول أيضًا: “ولما كثر العسكر المذكور بمكة نصبوا بيارقهم في المسجد الشريف من باب السلام إلى باب علي، ولم يَسْلَم من آذاهم أحد، فقد هاجموا بيوت التجار وبعض بيوت الناس الكبار، وأخرجوا أهلها، خصوصًا الحُرم، وانتهكوا حرمة الحرم، وتضرر منهم الخاص والعام”.

والواقع أن وصولهم إلى مكة كان نكبة على أهلها، ويصف لنا المؤرخ المكي ابن فهد المعاصر للحدث حال أهل مكة بقوله: “وصلى الناس العيد في المسجد وهم خائفون، ومن الأروام (الترك) وَجِلُون، خصوصًا لعبثهم وانتهاك عِرضهم، ولم يطلع أحد منهم المعلاة للتفرج على العادة”.

ولا يمكننا التبرير لمثل تلك التصرفات من أولئك العساكر العثمانية، ولا يمكن إحسان الظن فيما فعلوه في حرم الله الآمن، إلا لمن قد أُشرِب قلبه بحب الأتراك، وأصبح لا يرى منهم إلا كل حسن، ولا يرى قُبحَهم مهما كان مثل شمس النهار.

  1. جار الله ابن فهد، كتاب نيل المنى بذيل بلوغ القرى لتكملة إتحاف الورى، تحقيق: محمد الحبيب الهيلة ( بيروت: دار الغرب الإسلامي، 2000).

 

  1. عبد القادر الجزيري، الدرر الفرائد المنظمة في أخبار الحج وطريق مكة المعظمة، تحقيق: محمد حسن إسماعيل (بيروت: دار الكتب العلمية، 2002).

 

  1. عبد الملك العصامي، سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي (القاهرة: المطبعة السلفية، د.ت).

 

  1. علي السنجاري، منائح الكرم في أخبار مكة والبيت وولاة الحرم، دراسة وتحقيق: ماجدة فيصل زكريا (مكة المكرمة: مركز إحياء التراث الإسلامي بجامعة أم القرى، 1998).

المؤرخون قلبوا الحقائق وأجحفوا في حق القوى المحلية والشعبية

التراخي العثماني لمواجهة الأساطيل البرتغالية في البحر الأحمر

شهدت نهايات العصور الوسطى وبدايات العصور الحديثة تطوُّرات مهمة في أوروبا، من أهمها قيام دولتي إسبانيا والبرتغال وطردهما مسلمي الأندلس، كذلك بداية الحركة الصليبية الجديدة، من هنا بدأت البرتغال مرحلة ما يطلق عليه الكشوف الجغرافية، هذه الحركة التي كان أحد أهدافها الرئيسة الالتفاف حول أفريقيا، والوصول إلى المياه الشرقية الجنوبية من أجل السيطرة عليها، وحرمان القوى الإسلامية من عوائد التجارة الدولية.

هكذا بدأت صفحة جديدة في تاريخ الشرق العربي والإسلامي، من خلال توغُّل الاستعمار البرتغالي الصليبي ومحاولاته المستمرة في السيطرة على الطرق البحرية المهمة، خاصةً البحر الأحمر والخليج العربي والمحيط الهندي، وصاحَبَ ذلك تحوُّلات خطيرة في أوضاع القوى الإسلامية في المنطقة، فحتى دخول البرتغاليين إلى الشرق كانت دولة سلاطين المماليك في مصر وبلاد الشام والحجاز وبعض مناطق اليمن هي القوة الرئيسة التي تستطيع مواجهة الأساطيل البرتغالية التي عربدت في المنطقة.

لكن للأسف أدَّى دخول العثمانيين للشرق العربي إلى حالة من العداء غير المبرَّر ضد دولة سلاطين المماليك، ومن ثم سقوط دولة المماليك بعد موقعتي مرج دابق (1516)، والريدانية (1517م)، وبذلك حُرِم الشرق العربي الإسلامي من قوة كبرى كانت تستطيع على الأقل مواجهة البرتغاليين، ويؤكد على ذلك بعض المؤرخين: “فوجئ المماليك بالأسطول البرتغالي وقد فرض سيطرته على المياه الجنوبية الإسلامية، ثم بجيش السلطان سليم الأول يستعد لفرض حرب مصيرية على المماليك”.

وعلى الجانب الآخر أدى الصدام بين العثمانيين والدولة الصفوية في إيران إلى المزيد من الانقسام والضعف على الساحة الإسلامية؛ إذ فرض الصفويون المذهب الشيعي مذهبًا رسميًّا على إيران، لكن الأكثر خطورة هو التحالف الصفوي- البرتغالي للسيطرة على المياه الجنوبية الإسلامية عداوةً للعرب، والمحاولة في السيطرة على أراضيهم ونكايةً بالعثمانيين، هكذا وجد البرتغاليون الساحة مفتوحة أمامهم للسيطرة على البحار العربية الإسلامية.

ويتَّضح ذلك جليًّا منذ عام (1517م)، وهو عام غزو العثمانيين لمصر، وبالتالي تحكُّمهم في السواحل الشمالية للبحر الأحمر، لكن العثمانيين لم يُقدِّموا استجابة قوية تتناسب مع عِظم التحدي البرتغالي، ويؤكد البعض أنه منذ عام (1517م) وحتى عام (1541م) أرسل البرتغاليون عدد من الحملات العسكرية البحرية إلى البحر الأحمر، وحاولوا العربدة فيه، ومهاجمة الموانئ الإسلامية، وتهديد حركة الملاحة والتجارة فيه، دون مقاومةٍ تُذكَر من الجانب العثماني.

وأثار هذا الوضع الغريب انتباه الباحثين في محاولة تفسير سر هذا التراخي العثماني في مواجهة خطر الأسطول البرتغالي في البحر الأحمر، ويُرجِع البعض ذلك إلى: “أن البرتغاليين باستقرارهم في مصر-منذ عام 1517م- لم يشتبكوا مع البرتغاليين في موقعة فاصلة تحدد مصير تجارة المحيط الهندي والبحر الأحمر، وكان هذا راجعًا إلى انشغال العثمانيين بجبهات متعددة”.

ويلاحظ المؤرخ عبد العزيز نوار “أن سليم الأول لم يتخذ اجراءات كبيرة ضد البرتغاليين”. وحتى بعد وفاته ومجيء ابنه سليمان القانوني انشغل الأخير بالأحداث في أوروبا، وصراعه مع الإمبراطورية الرومانية، كما انشغل العثمانيون باستكمال احتلال العراق، ومواجهة الدولة الصفوية، وأيضًا بتأكيد حكمهم في مصر وقمع ثورات من تبقى من المماليك، وكان محصِّلة ذلك “ألا يتخذ السلطان سليمان القانوني إجراءات كبيرة ضد الوجود العدواني البرتغالي في المياه الإسلامية الجنوبية”.

وأدَّى ضعف العثمانيين وتهاونهم في الدفاع عن البحر الأحمر إلى عربدة البرتغاليين على طول سواحله، والأخطر من ذلك خطة التحالف البرتغالي- الحبشي لاحتلال ميناء جدة، وضرب مكة المكرمة بالمدافع، في محاولة لإشعال حرب صليبية جديدة، والحق أن العثمانيين لم يقدِّموا ردًّا مناسبًا إزاء هذه الخطة، على الأقل في النصف الأول من القرن السادس عشر.

وهناك العديد من الحوادث التاريخية التي تدعم ذلك، منها حملة لوبو سواريز على جدة، وإرسال شريف مكة يطلب الدعم من العثمانيين في القاهرة، لكن السلطات العثمانية تأخرت جدًّا في إرسال النجدات العسكرية، التي لم تصل إلا بعد فشل الحملة البرتغالية ورحيلها، كما استمر العجز العثماني عن حماية البحر الأحمر، وميناء جدة والحجاز بشكلٍ خاص، وتجلَّى ذلك فيما حدث في أواخر 1542م/ 948هـ، عندما خرَّب البرتغاليون موانئ البحر الأحمر، وهاجموا جدة، وهنا انتفض لهم أهالي جدة ومكة، واجتمعوا في جدة بجيشٍ كبير، ونُودي في نواحي مكة المكرمة: “مَن صَحِبَنا فله أجر الجهاد، وعلينا السلاح والنفقة”، هكذا وقفت القوى المحلية في وجه العدوان البرتغالي، بينما لم يُحرِّك العثمانيون ساكنًا.

المتعثمنون من المؤرخين في وضعٍ حرج لتبرير إهمال العثمانيين للمقدسات والبحر الأحمر، وتركه في مواجهة البرتغاليين بقواه المحلية.

ويوضح البعض ضعف إمكانيات الأسطول العثماني بالمقارنة بالأسطول البرتغالي، من حيث طبيعة بناء الأسطول البرتغالي، وقدراته التي اكتسبها من خلال عملياته فيما وراء البحار. يُضاف إلى ذلك عدم نجاح العثمانيين في استمالة القوى الإسلامية في البحر الأحمر واليمن إلى جانبها، خاصةً بعد ما رأوا من غدر الأسطول العثماني ببعض الحلفاء.

وإزاء عجز العثمانيين عن مواجهة البرتغاليين في البحر الأحمر لجأ العثمانيون إلى سياسة سلبية بعض الشيء، وهي سياسة إغلاق البحر الأحمر أمام الملاحة الأوروبية، بما فيها التجارية، وضرورة نقل البضائع داخل البحر الأحمر عبر سفن إسلامية، وهي السياسة التي أطلق عليها بعض المتعاطفين مع الدولة العثمانية: سياسة تحويل البحر الأحمر إلى بحيرة إسلامية، لكن حتى هؤلاء يعترفون أن هذه السياسة أثرت بشدة على التجارة الدولية، وعلى مكتسبات المواني الإسلامية على البحر الأحمر من هذه التجارة، واضطرت الدولة العثمانية إلى التخلي عن هذه السياسة، لا سيما في أواخر القرن الثامن عشر، وبصفة عامة منذ القرن التاسع عشر، مع تحوُّل الدولة العثمانية إلى رجل أوروبا المريض، عجز العثمانيون عن مواجهة التحدي البرتغالي، الذي هدَّد بالفعل الحجاز، ورأينا كيف دافع أهالي الحجاز عن مقدساتهم أمام الخطر البرتغالي بأنفسهم، ومن دون مساعدة عثمانية كما يَدَّعي الكثيرون حمايتهم للمقدسات الإسلامية.

  1. شوقي الجمل، المغرب العربي الكبير من الفتح الإسلامي إلى الوقت الحاضر (القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1977).

 

  1. غسان الرمال، صراع المسلمين مع البرتغاليين في البحر الأحمر خلال القرن السادس عشر، رسالة ماجستير، قسم التاريخ، جامعة الملك عبد العزيز بجدة، (1981).

 

  1. عبد العزيز نوار، تاريخ الشعوب الإسلامية في العصر الحديث القاهرة، دار الفكر العربي، 1998).

 

  1. بديع جمعة، أحمد الخولي: تاريخ الصفويين وحضارتهم (القاهرة: د.ن، د.ت).

 

  1. مرفت عطاالله، “مصر والصراع العثماني البرتغالي في البحر الأحمر في القرن السادس عشر”، مجلة مصر الحديثة، العدد 6، القاهرة (2007).
تشغيل الفيديو

العثمانيون أهملوا الحرمين الشريفين

وتغاضوا عن الاعتداءات الأجنبية على جدة ومينائها

عذابات جدة مع العثمانيين:

لم تكن مدينة جدة في تهامة الحجاز طوال أربعة قرون من الاحتلال العثماني الذي فرض قوته القهرية على الحرمين الشريفين بعد انتصاره على المماليك (1516م)، وإسقاط حكمهم، وسرقته للخليفة العباسي وقتله في إسطنبول، وإعلان الخلافة المزيفة بأحسن حالًا من مثيلاتها من المدن العربية التي احتلَّها العثمانيون، فقد عانت أشد المعاناة، وأُهملت عن عمد، وتُرك أهلها لمصيرهم أمام البرتغاليين تارة والإنجليز أخرى، فضلًا عن عذابات العطش والجوع التي رصدها المؤرخون.

الإهمال العثماني لمدينة جدة تجلَّى في حادثتين مهمتين مع دول أجنبية، فضلًا عن الممارسات العثمانية اليومية، ففي العام (1858م) تعرضت مدينة جدة لمحاولة غزو بحري من إحدى قطع الأسطول الإنجليزي، لم يكن ذلك هو الأول من دولة غربية – صليبية، فقد حاول البرتغاليون العام (1517م) غزو جدة وقصفها، ومن ثم التخطيط لتدمير الأماكن المقدسة، وهي في تلك الفترة تحت الاحتلال العثماني.

يقول المؤرخ قطب الدين النهروالي في وصفه لموقف العثمانيين من البرتغاليين: “جاء من الأتراك أربعة آلاف عسكري، وجهَّزهم في أغربة إلى جدة، وكان العسكر مجموعة من الإسكافية والصناع وقطاع الطريق والجهال من الشباب وغير ذلك، ولكل عشرة عسكر رئيس يسمونه بلوكباشي، ولكل خمسين منهم رئيس يسمى بيرق”.

أما المؤرخ المكي جار الله بن فهد فيقول عن مجيء الجنود الترك: “عندما دخلت الحملة إلى جدة فإن العسكر عاثوا فيها فسادًا، وارتفع سعر الحَبِّ، وصاروا يتعرضون للعرب، وينهبون الأسواق، واختفى كثير من المواد الغذائية نتيجة لتصرفاتهم وبذخهم، الأمر الذي اضطرهم للذهاب إلى مكة التي وصلوا إليها في يوم الأحد 13 رمضان”.

وذكر ابن فهد أيضًا أن العسكر عندما وصلوا إلى مكة لضيق جدة بهم قاموا بأعمال شنيعة، منها الهجوم على بيوت الناس وإخراجهم منها، بما فيها من حريم وأطفال، وسرقة أمتعتهم أو إتلافها والإقامة في بيوتهم، واقتحام بيوت التجار، وتمادوا بالأذى وتجاهروا بالفسق في النساء، وأخذوا المأكولات من الأسواق بثمن بخس أو دون مقابل، لم يسكت فقهاء الحرم على أفعال هؤلاء العسكر الغوغاء، فاجتمعوا برؤساء العسكر بحضور القضاة والأعيان، وأمروهم بإخراج عسكرهم من بيوت الناس والرحيل إلى جدة.. عندها ثار الناس فقاموا بقتل ونهب العسكر، وتتبَّعوهم على طريق مكة جدة.

الإهمال المكرر:

خلال منتصف القرن الـ 19 كانت تقيم في جدة جاليات أوروبية مسيحية كثيفة العدد، يعمل أفرادها في مؤسسات تجارية بمثابة وكلاء للشركات والمصانع الأوروبية. وبسبب رُسُوِّ عدد كبير من السفن فيها إثر تحول جدة إلى مرفأ مهم للإنجليز في طريقهم بين الهند وإنجلترا، ما سمح أيضًا بافتتاح عدد من القنصليات الأوروبية، كما عاشت فيها جاليات مسيحية متعددة الجنسيات، لكن ذلك لم يَسِر على سلام إثر خلاف السكان المحليين والإنجليز، والسبب في ذلك أن أحد ملاك السفن بجدة اشترى مركبًا عليه علم إنجليزي، وحاول إنزال العلم من مكانه، فغضب القنصل الإنجليزي وذهب إلى المركب، وأُشِيع انه أعاد العلم الإنجليزي إلى مكانه من السارية، وهو يطلق الكثير من الشتائم، فثارت ثائرة الناس، واقتحموا دار القنصل الإنجليزي وقتلوه، وقتلوا معه 20 من الدبلوماسيين والتجار الغربيين، بينما اضطر آخرون إلى الهرب سباحةً إلى حيث ترسو إحدى قطع الأسطول الإنجليزي.

الإنجليز قصفوا مدينة جدة على مرأى من العثمانيين الذين لم يحرِّكوا ساكنًا منتصف القرن التاسع عشر الميلادي.

التحالف الإنجليزي الفرنسي في جدة:

كان العثمانيون يحسون بالامتنان للإنجليز والفرنسيين بسبب مساندتهم السلطنة العثمانية في حربهم مع الروس حول القرم (1853 – 1856م)، وعندما ضغطت الدولتان – فرنسا وانجلترا- على السلطان عبد المجيد الأول استجاب فورًا، وأصدر فرمانًا سنة (1856م) يساوي فيه بين المسلمين والمسيحيين، وهو ما هيَّأ الساحة للانفجار كما وقع في مدينة جدة، وما أن وقعت الأحداث حتى انحاز العثمانيون للإنجليز على حساب السكان المحليين في جدة.

التخاذل العثماني:

بعد أن ذاعت أنباء الاشتباك بين سكان جدة والإنجليز أرسلت بريطانيا وفرنسا مذكرة مشتركة إلى الباب العالي العثماني تُبلِغانه أنهما قرَّرتَا إرسال سفنهما الحربية إلى جدة للتدخل وحماية الجاليات المسيحية فيها.

كانت مكة تُحكَم من قِبَل الضابط العثماني نامق باشا وقت وقوع المذابح والاضطرابات، فأسرع الى جدة على رأس قوة عسكرية وقبض على القَتَلة، وقدَّمهم إلى المحاكمة، وصدرت أحكام بإعدامهم، ولكن لم يكن في مقدور نامق باشا تنفيذ أحكام الإعدام إلا بعد إرسالها إلى إسطنبول للحصول على تصديق الباب العالي عليها، ثم تُعاد إليه الأوراق لتنفيذ الإعدام، الذي وافق عليه نامق باشا، وطلب تنفيذ أحكام الإعدام.

لم يكتف الباب العالي بذلك، بل أرسل قائدًا عثمانيًّا هو إسماعيل باشا على رأس قوة عسكرية للإسهام في إخماد ثورة السكان، ومجازاة القتلة، وتنفيذ حكم الإعدام فيهم.

وتحركت القوة العثمانية في طريقها إلى جدة، ومن جهته رد فؤاد باشا وزير الخارجية العثمانية حينها على المذكرة المشتركة لبريطانيا وفرنسا يبلغهما بالإجراءات التي اتخذها الباب العالي، وأبدى استعداد الحكومة العثمانية دفع تعويضات لمن تضرَّروا في الأحداث، وقرَّر أن حكومته تقبل اشتراك مندوبين فرنسيين وإنجليز لتقدير التعويضات.

بريطانيا تقصف جدة:

كانت الحكومة البريطانية أسرع في تحركها، ووصلت سفينة بريطانية حربية اسمها سايكلوب إلى ميناء جدة قبل وصول إسماعيل باشا، وطلب قائد السفينة من نامق باشا والي مكة المكرمة الذي كان لا يزال موجودًا في جدة تنفيذ أحكام الإعدام فيهم فورًا، وأمهله 24 ساعة لإجابة طلبه، فإذا انتهت المدة دون إعدام المحكوم عليهم فإنه سيصدر أوامره بأن توجه مدافع السفينة قذائفها لضرب ثغر جدة.

القصف الإنجليزي على مرأى العثمانيين:

انتهت المهلة المحددة فتعرض ثغر جدة لقصف مدافع السفينة البريطانية ساعات طوالًا، ودُمِّرت المنازل وسُفِكت دماء بريئة وأُحرقت المنشآت، وصل بعدها إسماعيل باشا فتوقف الضرب، ولولا وصوله لتدمر ثغر جدة عن آخره، ونزل الجنود البريطانيون إلى جدة، وكانت قد انتشرت في أرجائها القوة العثمانية المُرسَلة مع إسماعيل باشا.

وسيق المحكوم عليهم بالإعدام ونُفِّذ في 11 شخصًا منهم الحكم فورًا، ثم أُلحِق بهم اثنان آخران، أحدهما محتسب مدينة جدة، كما تم سجن ونفي آخرين ممن حامت حولهم الشكوك بالمشاركة في الأحداث.

  1. عثمان الصيني، “التاريخ العثماني في الحرميـن الشريفين ليس خيرًا كله”، صحيفة الوطن السعودية (2019)، على الرابط:

https://www.alwatan.com.sa/article/1005856

         2. نزار علوان، التطورات الداخلية في الحجاز وعلاقاته الخارجية (القاهرة: مكتبة الثقافة الدينية، 2020).

         3.وليد فكري، ‏الجريمة العثمانية:‏ ‏الوقائع الصادمة لأربعة قرون من الاحتلال (القاهرة: دار الرواق، 2021).