العثمانيون سنة (1694)
بنوا برجًا من جثث 1200 قتيل من أهالي مكة المكرمة
لا يختلف أحد من المؤرخين على أن قصة العثمانيين مع الحرمين الشريفين طويلة، تبدأ فصولها حتى قبل غزوهم مصر، وفرض احتلالهم على الحجاز بقوة الضغط السياسي، لكن ما يهمنا هنا هو أثر الإدارة العثمانية على الحرمين الشريفين مع دخولهم إلى الشرق العربي.
تشير المصادر التاريخية إلى إدراك العثمانيين مدى الأهمية الروحية للحرمين الشريفين، خاصةً بعد إسقاطهم لدولة المماليك في القاهرة، ورغبة سلطانهم سليم الأول في أن تصبح الدولة العثمانية مسيطرةً على العالم السُّني، في مواجهة واضحة وصريحة مع إسماعيل الصفوي الذي أعلن أن الدولة الصفوية في إيران حامية للعالم الشيعي.
من هنا لم يتورَّع سليم الأول -بعد احتلاله القاهرة- عن إعداد حملة عسكرية تذهب من مصر إلى الحجاز، من أجل ضم الحرمين الشريفين إليه بالقوة، ولنا أن نتخيل لو تم ذلك الأمر، كم الضحايا التي ستسقط في هذا الصراع، وكيف سيُخضِع العثمانيون الحرمين الشريفين لنفوذهم بالقوة، وما سيترتب على ذلك من انتهاك لحرمة الأماكن المقدسة!
تذكر المصادر أن أحد أبناء مكة، وهو القاضي صلاح الدين بن ظهيرة، كان في السجن في القاهرة في أواخر عصر سلاطين المماليك، طلب مقابلة سليم الأول، وأوضح له خطورة إرسال حملة عسكرية إلى الحجاز، وهو الأمر الذي يؤدي إلى انتهاك حرمة الحرمين الشريفين، وكم الضحايا التي ستسقط جراء ذلك، واستطاع ابن ظهيرة إقناع سليم بمراسلة شريف مكة، وضرورة احترام العثمانيين لسيادته على الحجاز، مع الاعتراف بالتبعية العثمانية، وهو ما تم بالفعل.
تعتبر هذه الحادثة كاشفة بالفعل عن سياسة العثمانيين تجاه الحجاز طيلة الفترة العثمانية، ورغم أن العثمانيين قدَّموا بعض الدعم لأوقاف الحرمين، لكنهم في حقيقة الأمر كان كل همِّهم تأكيد نفوذهم على الحرمين الشريفين، من أجل إظهار سيادتهم على العالم السُّني. ويشير بعض الباحثين إلى أنه على الرغم من اهتمام العثمانيين بتقديم الخدمات للحرمين الشريفين، إلا أن الإدارة العثمانية: “لم تتوصَّل إلى إيجاد قواعد تبنِي عليها علاقاتها مع إمارة الأشراف بما يرضي الطرفين، مما كان سببًا في الصدامات بينهما طوال مدة الحكم العثماني، وكانت نقاط الخلاف الجوهرية هي رغبة العثمانيين في فرض سيطرة مباشرة على المدن المقدسة، مما تعارَض مع ما كانت تحرص عليه إمارة الأشراف من استقلال ذاتي، فكانت الخلافات تتخذ مظاهر مختلفة من حينٍ لآخر”.
ويقدم أحمد السباعي تفسيرًا لهذا الصراع بين العثمانيين وأشراف مكة لا يخلو من وجاهة؛ إذ يرى أن العثمانيين كانت تُحرِّكهم العصبية للعنصر التركي، وتسيَّد المشرق والمغرب، وفرض سيادتهم على الحرمين الشريفين، بحيث ادَّعى السلطان العثماني أنه حامي الحرمين الشريفين “بينما كان الأشراف يأبون عليهم- العثمانيين- ذلك”.
وترتب على ذلك تعرُّض الحرمين الشريفين، وخاصةً مكة المكرمة، للعديد من الاضطرابات، وأعمال العنف والسلب، كان السبب الرئيس فيها في حقيقة الأمر هو سوء الإدارة العثمانية في بلاد الحجاز؛ إذ عمدت الإدارة العثمانية إلى اتِّباع سياسة “فرِّق تَسُد”، فكثيرًا ما تدخَّلَت في الخلافات بين الحكام بعضهم البعض، وأحيانًا انحازت إلى طرف، وانقلبت على الآخر، كما تجاوزت الإدارة العثمانية لاحقًا عن القاعدة التاريخية التي درج عليها العرف، بأنَّ حاكم مكة يتم اختياره من داخلها، ويتم إعلام إسطنبول بذلك، ليصدر الفرمان بتأكيد الاختيار؛ إذ عمدت إسطنبول إلى تفويض السنجق العثماني لجدة باختيار شريف مكة، بينما في حقيقة الأمر كانت جدة تتبع مكة، فكيف يختار سنجق جدة “أمير مكة”؟!
العنصرية المحرك الأساسي لفرض التسلط والاحتلال العثماني على الحرم المكي.
وزاد الأمر بأن الإدارة العثمانية كانت تختار موسم الحج ليكون مناسبة لعزل الحاكم وتولية آخر، فيؤدي ذلك إلى صدام بين المتنافسين على منصب الحاكم، في وقت كانت الحكمة تقتضي الهدوء لاستقرار الأمور، وتسهيل مهمة أداء الحجاج لشعائر الحج.
والأدهى من ذلك تدخُّل القوات العثمانية في الصراعات المحلية، مما يزيد من حدة هذه الصراعات، هذا فضلًا عن انتهاك القوات العثمانية لحرمة الحرمين الشريفين، وخاصةً مكة المكرمة، مقر الأمير، وتزخر المصادر التاريخية بالعديد من الحوادث التي قام فيها العساكر العثمانية بأعمال القتل والسلب والنهب.
ويروي لنا صاحب “إفادة الأنام” ما حدث في مكة عندما أرسل السلطان العثماني أمرًا بعزل الشريف سعد بن زيد عن شرافة مكة، وتولية الشريف عبد الله بن هاشم سنة (1694)، وما تبع ذلك من أعمال سلب ونهب: “نَهبت العسكر منزل مولانا الشريف سعد، ونحو عشرة بيوت من بيوت ذوي زيد”. كما يروي لنا أيضًا ما قام به سليمان باشا العثماني من انحياز مباشر ضد الشريف سعد، وسحب شرافته لمكة، وتدخُّله العسكري بشأن ذلك، وانتهاك حرمة مكة المكرمة: “جمع الباشا جميع جنده عند بابه، وملأ المدافع، وفرَّق بعض العسكر في البيوت حوله أيامًا عديدة، والشريف سعد يأمره بترك ذلك”.
وأدَّى ذلك إلى وقوع مذبحة رهيبة قام بها جنود سليمان باشا ضد أتباع الشريف سعد؛ إذ أرسل سليمان باشا عسكرًا وبعض المدافع إلى الأماكن التي بها أتباع الشريف سعد، وصوَّبوا هذه المدافع على بيوت الأهالي، وأدَّى ذلك إلى كسر أبواب البيوت، واندفع العسكر العثمانيون وقتلوا بعض من كان بداخل البيوت، وأسروا بعضهم الآخر، وربطوهم بالحبال، وذهبوا بهم إلى مقر سليمان باشا، حيث تم إعدامهم بدمٍ بارد، وتذكر المصادر استمرار القتل في ذلك اليوم المريع بحوالي 1200 ضحية: “وجُمِعت رؤوس الضحايا في حوش الشريف، وحُمِلت في الخيش، وبُنِي منها رضمٌ على خارجة سبيل السلطان مراد في المعلا؛ ليعتبر المارُّ بهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله”.
هكذا أدَّى سوء الإدارة العثمانية في الحجاز، وتدخُّلهم في شؤون الحكم في مكة، إلى تورطهم في العديد من المذابح، التي لا تتَّسق مع حرمة مكة المكرمة.
- – أحمد السباعي، تاريخ مكة: دراسات في السياسة والعلم والاجتماع والعمران (الرياض: الأمانة العامة للاحتفال بمرور مائة عام على تأسيس المملكة، 1999).
- – ابتسام كشميري، مكة المكرمة من بداية الحكم العثماني إلى نهاية القرن العاشر الهجري- السادس عشر الميلادي، رسالة دكتوراه، جامعة أم القرى (2001).
- – عبد الله الغازي، إفادة الأنام بذكر أخبار بلد الله الحرام، تحقيق ودراسة: عبد الملك بن دهيش (مكة المكرمة: مكتبة الأسدي، 2009).
استمرارًا للمذابح بمباركة عثمانية
سنة (1723) تسبَّب والي جدة التركي بمجزرةٍ في مكة
من يُمعِن النظر في قراءة تاريخ الحجاز خلال الاحتلال العثماني منذ القرن العاشر الهجري/ الخامس الميلادي؛ سيجد أن الولاة العثمانيين في الحجاز كان لهم دور كبير في إثارة الفتن بين الأشراف، التي وصلت في كثير من الأحيان إلى مرحلة الاقتتال الدموي فيما بينهم، وذلك في محاولة بسط النفوذ والسيطرة على حساب أمن الحرم المكي وسكانه، فقد استغل بعض الولاة العثمانيين نفوذهم الإداري والسلطوي من خلال ما كان يمنح له من أوامر سلطانية يغلب فيها مصلحة فئة على أخرى، أو قد تكون لمصالح نفوذ شخصية.
لم يكن يَطِيب للعثمانيين أن يتركوا الولاة الصالحين في مناصبهم.
ولعل هذا الأمر من مساوئ الإدارة العثمانية في الحجاز من حيث ازدواجية السلطة بين سلطة محلية وسلطة أجنبية إشكاليتها وانعكاسها على الأوضاع فيه وتسليمها زمام الأمور حسب الأمزجة والرغبات على حساب السكان الحقيقيين.
ومن ذلك ما حدث سنة 1116ه (1704)، عندما حاول الشريف عبد المحسن بن أحمد بن زيد عزل شريف مكة سعيد بن سعد بن زيد عن ولايته لمكة المكرمة من خلال التخادن مع الوزير سليمان باشا والي جدة، حيث استدعاه إلى جدة بحضور قاضي جدة وأعيانها، فقام سليمان باشا بإلباس الشريف عبد المحسن فروًا عظيمًا، وولَّاه شرافة مكة المكرمة، وجهَّزه بالعساكر والخيالة والسلاح والذخيرة، وأرسل معه نائبه “الكيخيا” ليترأَّس العساكر العثمانية.
وعندما علم الشريف سعيد بذلك الأمر أرسل خطابًا شديد اللهجة لسليمان باشا في جدة قال فيه: “بيدنا فتوى المفتي وحكم بموجبها قاضي الشرع بكفر من تجرَّأ على مَن ولَّاه السلطان على بلد إذا كان بيده أوامر سلطانية، وأنه لا يُعزل إلا بعزل السلطان له، وأنه قد جاءنا الخبر بعزلك ومحاسبتك، فكيف لك بالعزل والتولية مع أنك معزول عن منصبك؟!”.
ولقد نتج عن تصرُّفات والي جدة سليمان باشا أن حدثت فتنة ومقتلة عظيمة بين الأشراف ذهب ضحيتها الكثير من رجال القبائل بسبب القتال والحرب بالسلاح والمدافع بين الطرفين، بل في بعض الأحيان يضطرب الأمن لدرجة أن تبطل الصلوات الخمس في المسجد الحرام، ويتعطَّل الأذان لعدة أيام بسبب القتال داخل الحرم المكي.
ثم ما لبث أن تغلَّب الشريف عبد المحسن على الشريف سعيد الذي فقد شرافة مكة وخرج منها، ونلحظ أن الشريف سعيد تولى الشرافة مراتٍ عدة مع والده الشريف سعد بن زيد، حيث توفي سنة (1717).
كان تعيين وخلع الأشراف من ولاية وشرافة مكة يأخذ طابع المصالح والأهواء الذاتية للوالي العثماني وأخلاقياته والبيئة التي قَدِم منها من جهة، ومن جهة أخرى ميل الوالي لأحد الأشراف، ودعمه بصورة مباشرة أو غير مباشرة ضد الشريف الآخر؟! بالإضافة إلى قدرة أحد الأشراف الطامعين والطامحين للحكم على الوصول إلى مقر السلطان في إستنبول، والحصول على أوامر سلطانية، فيترتب على ذلك التغيير المفاجئ أن تتأثَّر الأوضاع في البلد الحرام، وينتج عنه الفوضى واضطراب الأمن الذي عادة ما يكون ضحيته الأهالي وحجاج بيت الله الحرام.
ومن ذلك مثلًا ما حصل من خلاف بين الشريف يحيى بن بركات، الذي نُودِي له بالشرافة وأميرًا على مكة المكرمة (1718)، والذي لم تَسلَم فترته من المنغِّصات، واستمر بولايته إلى (1720)، وكان من خيار مَن تولى شرافة مكة، وشهد له بالصلاح والتقوى، حتى قال عنه المؤرخ محمد بن علي الطبري (ت: 1173هـ): “رحم الله مولانا الشريف يحيى؛ فقد كان حسنة من حسنات دهرنا، وما رأيت أصلح منه من أولاد أبو نمي بن بركات في عصرنا قولًا وفعالًا بالحق، كان لا يكاد يفارق المسجد حتى كأنه من حماماته”.
وبعد ذلك تم عزله، ثم تولى الشرافة مرةً سنة (1722)، إلا إنه تنازل عنها لابنه بركات سنة (1723)، إلا أن الخلاف دبَّ في إقراره على الشرافة، فنازعه الشريف مبارك بن أحمد بن زيد، وحدثت بينهما معركة كبيرة حامية الوطيس، وكان الشريف مبارك مدعومًا من إسماعيل باشا والي جدة وبعساكره الذين فاقُوا قوات الشريف بركات في العدد والعدة والذخيرة، وكان من نتائجها هزيمته، وحدثت مقتلة عظيمة حتى امتلأت أعالي مكة المكرمة بجثث القتلى.
لقد عانى البلد الحرام من الفوضى الإدارية التي كان ولاة العثمانيين وباشواتهم في جدة يُدِيرون بها البلاد والعباد، وتلك الازدواجية الإدارية كان أثرها في العادة أثاره وخيمة على الأشراف، وعلى سكان البلد الحرام والحجاج وقاصدي البيت الحرام.
- أحمد دحلان، أمراء البلد الحرام (بيروت: الدار المتحدة للنشر والتوزيع، د. ت).
- أحمد الخطيب، تاريخ مكة دراسات في السياسة والعلم والاجتماع والعمران (الرياض: مكتبة العبيكان، 1999).
- عبد الله الغازي، إفادة الأنام بذكر بلد الله الحرام مع تعليقه المسمى بإتمام الكلام، تحقيق: عبد الملك بن دهيش (مكة المكرمة: مكتبة الأسدي، 2009).
- محمد بن علي الطبري، تاريخ مكة إتحاف فضلاء الزمن بتاريخ ولاية بني الحسن، تحقيق: محسن محمد (القاهرة: دار الكتاب الجامعي، 1984).
فرِّق تَسُد
استراتيجية العثمانيين لتفكيك القوى المحلية في الحجاز
يحاول المُتأدلجون والمتأخوِنون أن يُصوِّرُوا الاحتلال العثماني للحجاز على أنه فتح إسلامي جديد، وحَّدَ بلاد العرب تحت مظلَّة الخلافة الإسلامية، وكرَّم جزيرة العرب بحكم سلالة جاءت من الأناضول لإعادة إحياء الخلافة!
وإذا كان رؤوس المتأدلجين يعلمون حقيقة الحال وواقع المآل، فإن ولاءهم للباب العالي إنما يدخل في إطار تَوافُقات سياسية تضمن لهم قاعدة خلفية للتراجع والهروب، وحاضنة سياسية وإعلامية ومالية في إطار المشروع العثماني لإقامة كيانات كرتونية تَدِين بالولاء السياسي لأنقرة، وبالولاء الإيديولوجي للإخوان المسلمين.
اعتاد العثمانيون نقض العهود وخيانتها مع العرب.
غير أن محاولة تغطية الوجه الحركي المؤدلج يصطدم بالوقائع التاريخية والقرائن المادية التي تقطع بأن العثمانيين لم يكونوا مبشِّرين ولا منذِرين ولا فاتحين، بل محتلِّين غاصبين، أبادوا الحرث والزرع، وظلموا البلاد والعباد، وأبادوا البشر والحجر والشجر.
وبالعودة إلى الواقع السياسي في الحجاز في زمن الاحتلال العثماني يمكن القول بأن بدايات القرن الثامن عشر الميلادي عرفت وضعًا سياسيًّا صعبًا، وتطاحُنًا شديدًا على السلطة بين الحُكَّام المحليين، وعِوَضَ أن تتدخل الدولة العثمانية لإصلاح ذات البَين واحترام شكل الحكم الذاتي، الذي تمتَّع به الحجاز، قامت بتقوية أحدهم على الآخر، ونفخت في نار الفُرقة من أجل تعميق الشرخ بين أفراد الأسرة الواحدة من أجل تنصيب مُوالِين للعثمانيين، وهو ما نجح فيه الأتراك، نسبيًّا، ليُفسح المجال لإراقة دماء عربية عزيزة، عِوَض العمل على تعضيد الأرحام، ومنع سفك الدماء التي جعلها الله في مرتبة أقدس من الكعبة المشرفة.
في هذا السياق يجب أن نوضح بأن فرض الاحتلال والسيادة الرمزية للعثمانيين على الحجاز كان يقابلها نوع من الحكم الذاتي الموسَّع الذي مارَسَه أمراء الأشراف على إمارتهم، وهنا نسجل بأن عملية اختيار الأمير كانت تتم بشكل محلي، ثم تَعقُبها المباركة الشكلية للأستانة، ولذلك فقد “اتخذ التنافس والصراع بين الشرفاء من أجل إمارة مكة طابعًا حادًّا، فقبل ظهور نتيجة مسألة مصادقة الدولة على الشخص الذي “يرشحه الشرفاء لتولي الإمارة” يَرِد ترشيح شخص جديد، وهو ما يقطع بأن الدولة العثمانية كان لها امتياز المصادقة، وليس التعيين المباشر، وهو ما لم تلتزم به في مواجهة التدافعات بين الأشراف.
إن هذا الالتزام السياسي للعثمانيين لم يجد طريقه نحو التنزيل السليم إلا فيما ندر، حيث لجأت إسطنبول إلى إستراتيجية “فرِّق تَسُد” من أجل تنصيب أمراء يَدِينون لها بالولاء الصريح، ويُطلِقون يدَها في الحجاز بشكل مباشر.
في هذا الصدد يمكن الإشارة -على سبيل الاستدلال لا الحصر- إلى دعم الأتراك ليحيى بن بركات الذي لجأ إليها بعدما قام الأشراف بعزله وتولية الشريف مبارك بن أحمد بن زيد، وخارج إطار الأعراف، قام السلطان العثماني بإصدار أمر تعيين يحيى بن بركات “متغافلًا عن وجود الأمير مبارك الذي يتولى حُكمها بمرسوم صحيح.. وأمر بأن تُدعم أوامره الجديدة بقوة أمراء الحج الشامي والمصري العسكرية”، هذا التصرف خارج الأعراف الأميرية فتح المجال لفتنة كبرى، حين التقت السيوف وسط زحام موسم الحج.
في نفس سياقات التدخل التركي في تعيين رأس الأشراف نرصد نازلة عزل أصحاب الحل والعقد في الحجاز للشريف عبد الله بن سعيد سنة (1718) في ولايته الأولى بعدما “تغيَّر حاله وحصل بينه وبين الأشراف اختلاف كثير حتى خرج كثير منهم من مكة مغاضبًا له، وانجلوا إلى اليمن”.
غير أن الشريف عبد الله بن سعيد ناوَرَ من خلال طرق باب الأتراك من أجل محاولة استعادة الحكم وتثبيته، بالرغم من التزام الدولة التركية، الموثق، بعدم التدخل بين الأشراف لتزكية طرف على طرف، وهو الالتزام الذي أسقطه الأتراك مرة أخرى، بمناسبة مواجهة عبد الله بن سعيد للأشراف في مكة، وهنا يذكر صاحب خلاصة الكلام هذه النازلة فيقول: “وأما الأتراك فهم في بيوتهم حافِظون أيديهم عن الفريقيَن، إلا أنهم في آخر الأمر جنحوا إلى إعانة الشريف عبد الله بن سعيد بعد أن كان بينهم وبين السادة الأشراف عهود ومواثيق بعدم المعاونة، فرفضوا تلك العهود السابقة، فلما أعانوه حصل النصر، فأخرج الذين قاوموه من القصور مكسورين”.
إن دخول الأتراك على الخط ومناصرة طرف على آخر ساهم في تعقيد المشهد الأسري المعقَّد أصلًا بين الأشراف، وهو ما وأدَ أية محاولة لإصلاح ذات البَين، على اعتبار أن الأتراك أرادوا أن يُرسِّخوا قاعدة مفادها أنهم أصحاب السيف والشوكة، وعندهم الحل والعقد، ومناط الأمر أولًا وأخيرًا.
لجأ الأتراك العثمانيون إلى قاعدة “فرِّق تَسُد” من أجل ضرب أي وحدة عربية، ودقِّ إسفين بين القوى المحلية في العالم العربي، ومنها الحجاز، وساعدها في ذلك هوى السلطة الذي راوَدَ بعض الشرفاء، ودفعهم إلى الزيغ عن الأعراف السياسية والبروتوكولية التي كانت تنظم البيت الشريف في الحجاز، وهو الأسلوب الذي استمر مع استمرار الدولة العثمانية.
- أحمد دحلان، أمراء البلد الحرام (بيروت: الدار المتحدة للنشر والتوزيع، د. ت).
- إسماعيل حقي جارشلي، أشراف مكة المكرمة (بيروت: الدار العربية للموسوعات، 2003).
- محمد الفاسي، شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام، تحقيق: علي عمر (القاهرة: مكتبة الثقافة الدينية، 2008).