الجرائم العثمانية

في الحرم المكي الشريف

مكة المكرمة.. حرم مستباح ودماء تسيل على أيدي الدولة العثمانية!!

لم تَسلَم مكة ولا حرمها الشريف من سوء إدارة العثمانيين لها، بل إنهم تعمَّدوا طوال تاريخ احتلالهم -الذي استمر لما يقارب الأربعة قرون- التعاملَ معها ومع ولاتها وسكانها بآلية تنقلت بين الغدر والحيلة والخيانة.

فقد اعتمد العثمانيون في مكة المكرمة سياسة خَلْق الفتن بين ولاتهم من الأشراف حتى يضمَنوا ألَّا يحاول أحد منهم الاستقلال عن ولايتهم أو إعلان أن لا خلافة للعثمانيين على الحرمين الشريفين، وهو أمر أرَّقهم كثيرًا، إذا كانوا على يقين أنه لا حق لهم في خلافة مسروقة من الخليفة العباسي في مصر.

إذ كان دَيدَن العثمانيين ألَّا يستقر أمر والٍ إلا ويُخلَع، وإذا رفض سلَّطوا عليه عسكرهم، فيُقتَل ويُقتَل أتباعه، ليأتي بعده آخرُ مُوالٍ لهم، وهو ما يُولِّد خللًا دائمًا في تركيبة الولاءات وإذكاء العداوات، وإبقاء إمارة مكة في أيديهم، وليستقر في يقين الطامحين والطامعين في الولاية أنك كلما تمادَيت في إرضاء العثماني كلما سمح لك بالبقاء أطول فترة ممكنة في ولاية مكة أو المدينة المنورة، كل ذلك ليستتِبَّ لهم أمر الهيمنة والاحتلال على الحرمين الشريفين، وإبقاء الخلاف بين العائلات الطموحة والولاة.

كانوا يأمرون واليًا ثم يُقِيلونه بعد أسابيع أو أشهر أو بضع سنوات، فإذا رأوا أنه استقر له الحال دفعوا منافسيه للإطاحة به، ثم استدعوه إلى تركيا بعدما تثور الفتنة، وتسيل الدماء في شوارع مكة، بعدها يعيِّنون منافسه الآخر في منصبه، فتبقى العداوة بينهم، ثم بعد عدة سنوات أو حتى عدة عقود يستدعون الأول أو أبناءه ليحلوا محل الحالي، وهكذا يُدَوِّرن الحكام، ويخلُقون الأحقاد، حتى استحالت مكة موطنا للفتن، وأرضًا للقتل والدماء لأكثر من أربعة قرون.

وبالرغم من أخذ الولاة والأعيان والعلماء والسكان في مكة والمدينة وجدة العهود والمواثيق من العثمانيين إلا أنهم لطالما خانوها ونقضوها، وأصبحوا مثالًا للخيانة والغدر، وزاد شرُّهم واستوطن حقدهم على العرب، وبقيت الفتن نارًا لا تنطفئ حتى تعود مرة أخرى.

وفي كتاب الإثنينية.. الأعمال الكاملة للأديب الأستاذ أحمد السباعي، يرد ما يؤكد تلك السياسة العثماني في مكة: “في أوائل ذي الحجة عام 1105هـ بعد فتنة راحَ ضحيتها عدد كبير من الحجاج في عرفة وفي مكة، ونُهب كثير من الحجاج في طريق عرفة، وكثر الفساد في طريق جدة، حتى إن القوافل العائدة بعد الحج كانت لا تجرؤ على السفر حتى يَصحَبها عسكر من مكة ليقوم بحراستها، والمسؤول في رأيي عن أكثر هذه الوقائع هي السلطنة التركية التي كانت لا تختار لعمليات العزل إلَّا أيام الحج، فتترك الحجاج يُقاسُون من أهوال الفتن ما يقاسون، وتتعرض أموالهم وأمتعتهم لنهب اللصوص الذين يغتنمون هذه الفرص ليُشبِعوا رغبتهم في السلب، أو يَسُدُّوا عَوَزَهم وحرمانهم”.

هكذا هو دَيدَن العثمانيين في إدارتهم الفاشلة لشئون مكة المكرمة، فخلافاتهم وأطماعهم تنعكس على الحرمين الشريفين، وعلى مَواسم العبادة، وكان الخلاف الدائم بين “سنجق جدة” وبين والي مكة هو المحرك الكبير لكثير من أعمال القتل والغدر، وعلى سبيل المثال فالشريف سعد الذي تولَّى ولاية مكة بأمر العثمانيين أربع مرات مختلفات، فيحكم ثم يحرض عليه العثمانيون أبناء عمومته عليه، فيُخلع، ثم يعود فيُخلَع، ثم يعود، وهكذا لا يكاد يستقر الحال حتى يُنقض الحكم، ويختل الأمن، ويكثر القتل في أقدس أقداس المسلمين.

وفي مثال على ما حصل على الأرض تقول الرواية التاريخية عن حكم الشريف سعد والي العثمانيين على مكة المكرمة، وكيف غدروا به وبأعوانه:

“هرب جماعة من أتباع الشريف سعد، ودخلوا دار السعادة، وجماعة دخلوا دار جوهر آغا، وغيره من البيوت، وجماعة في جبل أبي قبيس بزاوية الشيخ بأبقي، والبيوت التي حولها، فأقاموا يومهم وليلتهم محاصَرين، ثم أرسل “الباشا سليمان” مدافع وعسكرًا ورموا بالمدافع إلى الأماكن التي فيها أولئك المحاصَرين، فكسرت الأبواب، ودخل العسكر، وقتلوا من كان هناك، وربطوا جماعة، وذهبوا بهم إلى بيت الباشا، فقُتلوا هناك، واستمر القتل بقية ذلك النهار، حتى لم يبقَ إلَّا مَن تَوارَى ثم تتبَّعوا من كانوا في جبل أبي قبيس فقتلوهم، حتى وصلوا بالقتلى إلى الصفا، وكانوا نحو 600، وكان يوم سخط، وكل محل من مكة يوجد فيه قتلى، قيل: إن عدة القتلى في ذلك اليوم 1200 رجل، حتى عجز الناس عن مواراتهم، وصاروا يحملونهم على العجلات ويرمونهم من رواشن دار السعادة وأسطحتها على الأرض، فيَجُرُّونهم جَرَّ الرِّمَم، ويُلقونهم في العجلات، ويحفرون لهم حفرًا ويلقونهم فيها، وجُمعت الرؤوس في حوش الشريف، وحُمِلت في الخيش، وبُنِي منها رضم على خارجة سبيل السلطان مراد في المُعَلَّا؛ ليعتبر المارُّ بهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله”.

انتهى النص المقتبس، لكن مأساة مكة المكرمة وسكانها لم تنتهِ إلا بعد خروج العثمانيين منها، واستقرار الأمر للدولة السعودية المباركة التي نشرت العدل والأمن والتنمية فيها.