التاريخ العثماني:

القفز على أنسنة التاريخ

يحرص علم التاريخ دائمًا على بيان فكرة أنسنة التاريخ، أي أن الأحداث التاريخية ما هي إلا محصلة التاريخ البشري، بتناقضاته ودوافعه الإنسانية. وتعمل جُل المدارس التاريخية على تفكيك وتفنيد أي محاولة للقفز على أنسنة التاريخ، وصناعة تاريخ مقدس.

مع ذلك فإننا نلاحظ العديد من المحاولات الممنهجة والمتكررة لصناعة تاريخ مقدس للدولة العثمانية. وتأتي هذه المحاولات في إطار تعظيم الدور التركي في منطقتنا العربية، وكذلك توظيف جماعات الإسلام السياسي للتاريخ العثماني، من خلال صناعة تاريخ مقدس للدولة العثمانية، على أساس أنهاأخرخلافة إسلامية.

وتتعدد ميادين ومجالات صناعة التاريخ المقدس للدولة العثمانية؛ إذ لم تعد قاصرة على مجرد إصدار العديد من الكتب في هذا الشأن، وإنما دخلت مجالات أخرى واسعة الانتشار مثل صفحات التواصل الاجتماعي، والمواقع الإلكترونية المخصصة للحديث عن التاريخ العثماني، والأهم من ذلك، بل والأخطر في رأينا، توظيف الدراما التاريخية لخدمة هذه الأهداف.

ويلاحظ المرء التوسع الكبير في إنتاج الدراما التاريخية التركية، وخاصةً في العقد الأخير. وسنلاحظ هنا ظاهرة مهمة وخطيرة في هذا الشأن وهي الترويج للأساطير بل والأكاذيب، وافتعال الهالات المقدسة للرموز العثمانية، وتمريرها إلى عامة الناس، عبر سحر الصورة والدراما، والإنتاج الضخم، حتى ثبتت هذه الأساطير والأكاذيب في أذهان العامة، وتحولت إلى تاريخ مقدس، وتوارت إلى الخلف فكرة أنسنة التاريخ، وأن التاريخ بشكل عام، وتاريخ الدولة العثمانية على وجه الخصوص، ما هو إلا تاريخ بشري مليء بالصراعات والتناقضات.

يظهر ذلك جليًا، على سبيل المثال، من خلال المسلسل التركي الشهيرقيامة أرطغرلهذا المسلسل الذي امتد عرضه عبر 150 حلقة، وعلى مدى 3 مواسم؛ إذ حرص المسلسل على صناعة تاريخ مقدس لأرطغرل، والد عثمان بك، الذي تنسب الدولة العثمانية إليه. من هنا تجاوز المسلسل عن الحقيقة التاريخية التي تكاد تجمع عليها معظم المصادر التاريخية الموثوق بها، وهي وثنية أرطغرل، وأنه لم يدخل إلى الإسلام.

وتم اللجوء إلى حكايات شعبية، وضعت بعد زمن أرطغرل بقرون، من أجل الترويج لإسلام أرطغرل، بل ووضع هالة مقدسة حوله من خلال الحرص على أنهأي أرطغرلهو البطل الإسلامي الحريص على الدفاع عن القدس، في إسقاطٍ واضح على الحالة الحاضرة. وبات من الواضح أن الدراما التركية لا تريد الحديث عن وثنية أرطغرل؛ إذ كيف يكون والد رأس الدولة غير مسلم؟

الأكثر من ذلك أن المسلسل صنع تاريخ آخر لأرطغرل، لا نجده في كتب التاريخ، فكل ما نعلمه عن أرطغرل في كتب التاريخ لا يتعدى أسطر قليلة لا تزيد عن عدد أصابع اليد الواحدة، فكيف يتم نسج سيناريو وحوار عبر 150 حلقة تليفزيونية، حتى قيل أن كاتب المسلسل قد صنع تاريخًا آخر لأرطغرل، لا نجده في الكتب التاريخية! الأمر المثير أن هذه الأكاذيب والأساطير تسللت إلى عقل وقلب المشاهد، وظن أنها تاريخ حقيقي، وخاصةً مع انتشار الأمية التاريخية في عالمنا العربي.

ومن الأمثلة الشهيرة في مسألة القفز على أنسنة التاريخ، وصناعة التاريخ المقدس في الدولة العثمانية، تاريخ السلطان محمد الثاني، المعروف بمحمد الفاتح؛ إذ تم القفز على بشرية السلطان محمد الفاتح، وصناعة تاريخ مقدس له بعد فتحه للقسطنطينية، عاصمة الدولة البيزنطية. ونحن لا ننكر أهمية فتح القسطنطينية، ولكن ما يهمنا هنا هو وضع هالة مقدسة على رأس السلطان محمد الفاتح، من خلال تصويره بأنهالأمير المُبشربفتح القسطنطينية، وفقًا للحديث النبوي عن فتح القسطنطينية، وأن خير أمير هو فاتحها، وأن خير جيش هو الجيش الفاتح، في إسقاط واضح على السلطان محمد الثانيالفاتحن وعلى الجيش العثمانيفاتح القسطنطينية“.

وهنا نلاحظ من جديد القفز على أنسنة التاريخ، حيث يتم التجاوز عن الوجه الآخر لتاريخ محمد الثانيالفاتح؛ إذ لا يلتفت هؤلاء إلى ما ذكر في الكثير من المصادر الأوروبية، وبعض المصادر التركية، عن والدة السلطان محمد الفاتح، وأنها مسيحية. وعندما يلتفت بعض المؤرخين الأتراك الآن إلى هذه المسألة، فإن ذلك يتم في إطار نفي هذا الأمر، والتأكيد على أن والدة السلطان محمد الفاتح كانت مسلمة؛ إذ كيف يكون هوالأمير المُبشروأمه غير مسلمة؟!

بل ويتجاهل هؤلاء بعض الإشاعات التي وردت في عدة مصادر تاريخية حول ميل السلطان محمد الفاتح نفسه إلى المسيحية، وسواء كان هذا الأمر مجرد إشاعات، أم حقيقة، فإن ما يهمنا هنا هو الحرص الشديد على صناعة التاريخ المقدس، وعدم النظر إلى محمد الفاتح على أنهحاكمورجل سياسة، بكل ما في ممارسة السياسة من تناقضات وطابع بشري.

من هنا يأتي تجاهل البعض لمسألة مهمة وخطيرة في تاريخ محمد الفاتح، وهي مسألة لا تتناسب مع ما يردده البعض من أنهالأمير المُبشر، ونقصد بذلك مسألة قتل الأخوة، أي قتل السلطان إخوته، حتى يتفادى الصراع على العرش. هذه المسألة التي بلغت ذروتها منذ عهد السلطان محمد الفاتح، والتي انتقدها الكثير من المؤرخين على أساس أنها عنوانًا للوحشية، ومذبحة في سبيل الحكم والسلطنة. ومع ذلك يدافع أنصار التاريخ المقدس عن هذا الفعل المشين، ويبررون لجوء السلطان إلى ذلك من خلال سند شرعي، وعبر فتوى شرعية، حفاظًا على الاستقرار ومصلحة الدولة العليا!

للأسف الشديد يحاول البعض القفز على أنسنة التاريخ، ويعملوا بإصرار على صناعة تاريخ مقدس للدولة العثمانية، ووضع هالات القداسة على رؤوس السلاطين، مع أن حيوية التاريخ في كونه تاريخ بشر، وليس تاريخ ملائكة.