العثمنة والإسلام السياسي..
تخادم ومشروع واحد!!
يعتقد العثمانيون الجدد – وهم في تعريفهم المشهور: كل المؤمنين بفكرة استعادة الأتراك لحدود السلطنة العثمانية جغرافيًّا وسياسيًّا في العالم العربي – أن استعادتها لا تمر إلا بالإطاحة بالدول العربية – الحديثة – واحدةً تلو الأخرى، وهم يستخدمون لإنجاز مشروعهم حليفهم الأكبر “الإسلام السياسي”، ولا أدل على ذلك مما يحصل في الشمال السوري، وليبيا وشمال العراق، ومحاولات الغزو الثقافي عبر وسائل عديدة.
الغريب أن المطالبات العثمانية الجديدة لا تشمل الجغرافيا الأوروبية، ولا الجغرافيا الروسية، وهي الدول أو الأراضي التي استعادتها أوروبا وروسيا من العثمانيين، بل ينصَبُّ غضب وأحلام الأتراك الجدد على الأراضي العربية التي استقلَّت واستعادت حريتها بدءًا من العام 1914م، ولذلك نرى أن معظم الفتن والمحاولات للتفتيت والزعزعة لا تستهدف إلا البلدان العربية.
لقد اجتمع العثمانيون الجدد مع التنظيمات الإسلاموية، وخاصة “الإخوان المسلمين” على فكرة رومانسية، وهي إعادة بناء “الخلافة العثمانية”، التي كانت شكلًا من أشكال السيطرة العثمانية على العرب، لكنهم في حلمهم لحكم العالم الإسلامي يَغُضُّون النظر عن حقيقة أن الذي قضى عليها – الخلافة- هم الأتراك أنفسهم وليس أحد آخر.
القضاء على الخلافة الإسلامية كأحد أشكال الحكم المقبولة إسلاميًّا جاء إثر سرقتها من العرب، واختطاف آخر الخلفاء العباسيين من القاهرة سنة 1517م، وجلبه إلى إسطنبول، ومن ثم التخلص منه، والزعم بتنازله عن منصبه، ومن ثم إعلان أنفسهم خلفاء.
أما الخلافة في شكلها العثماني المسروق فقد أكلت السلطنة نفسها من الداخل، بعد قيام الضباط الأتراك بحركات تمرد وتحرُّر من الماضوية التركية العثمانية سعيًا لبناء دولة حديثة، وهي انشقاقات بدأت مبكرًا منذ العام 1870م، واستمرَّت حتى الإطاحة بالسلطان عبد الحميد الثاني، وبغضِّ النظر عن أهداف الضباط، لكنهم أتراك أسقطوا سلطنتهم التركية بأنفسهم بدون تدخل مباشر من العرب.
لقد وجد الإسلام السياسي في العالم العربي – نتيجة لخصومته مع الأنظمة العربية على وجه الخصوص، وسعيه للانقلاب عليها – في الخلافة “قميص عثمان”، وفي الأتراك حليفًا وظهيرًا له في مشروعه، وفي سبيل تحقيق مشروعهما المشترك، يقوم الإسلام السياسي بجانبه من القصة، وهي بناء سردية غير حقيقية عن “الأمجاد والحكم الرشيد العثماني” في العالم العربي، وتحميل العرب المسئولية، ليستمر الإحساس بالذنب، ومحاولة الغفران بدعم عودة الخلافة المزعومة، بينما تقول الوقائع والتاريخ الدموي للعثمانيين غير ذلك، لقد كان العثمانيون قوة محتلَّة متجبِّرة، همُّها أخذ الخيرات العربية – موقعًا ومَوارِدَ وطاقات بشرية – وتصديرها للسلطنة.
وتلعب الدراما والأبحاث والكتب والمنصات الإعلامية دورًا خطيرًا في ترويج تلك السردية غير الحقيقية، وينشط الإسلاميون المؤمنون بالعثمنة في ترسيخها في الوجدان العربي، ويقوم الأتراك أنفسهم بكتابة تاريخ آخر غير تاريخهم الحقيقي لتلميعه، ومسح كوارث الدماء والقسوة منه، وتحويله إلى تاريخ أكثر قبولًا عند الشعوب، ولا أقرب من تاريخ السلطان عبد الحميد مع هيرتزل مؤسِّس الحركة الصهيونية، وهو الذي تحصل على الوسام المجيدي من السلطان نظير خدماته للسلطنة، ومع ذلك يتم تغيير الرواية ويُصدِّقها العامة وكأنها خدمة لفلسطين، بينما الواقع كان غير ذلك تمامًا.
وجد المشروع التركي الجديد في بعض الإسلاميين العرب، والتنظيمات المنتجة لهم، أذرعًا وإمكانات قادرة على خدمة مشروعه، ولذلك فتح لهم أبواب تركيا؛ للقيام بدورهم التخديري في العالم العربي، ويتضمَّن تشويه الواقع العربي، وتعظيم مآسيه، وتشويه منجَزاته، والوقيعة بين الشعوب والحكومات، وتحويل الولاء من الأرض العربية للحلم العثماني، وتصوير تركيا كبلد صانع للأحلام، والأتراك الجدد ومشروع “العثمنة” كمنقِذَين.
لقد كان استخدام نتائج ما يسمى بالربيع العربي تتويجًا لذلك التخادم المُرِيب الذي رتَّب له الطرفان – التركي، والإسلاموي- طوال عقود، فقد استطاع الإسلاميون هَدم بعض الدول العربية من الداخل، مستغلِّين حالة الفوضى والاحتجاجات نتيجة لحملات التشويه والاختراق لسنوات طويلة، وسهَّلوا للأتراك التقدم جنوبًا نحو سوريا وتونس وليبيا، ومع أن تونس ومصر استعادَتَا بعضًا من عافيتهما إلا أن المشروع العثماني لا يزال قائمًا، وإن سكن قليلًا.