العثمانيون..
والخلافة
تُعدُّ مسألة الخلافة من أهم المشكلات المُزمِنة عبر التاريخ الإسلامي، وما يهمنا هنا هو
المرحلة الأخيرة منها، ونقصد بها مرحلة ادِّعاء بني عثمان الخلافة، أو ما يُعرَف بالخلافة العثمانية،
وفي الحقيقة ما تزال هذه المرحلة تُلقي بظلالها وتبعاتها على حاضرنا حتى الآن.
وجدير بالذكر ههنا أن تأسيس جماعة الإخوان المسلمين كان في عام 1928 م، أي بعد أربع سنوات فقط من إلغاء “كمال آتاتورك” للدولة العثمانية في عام ( 1924 م)، ويؤكد “حسن البنا” مؤسس الجماعة أن تأسيسه لها كان ردًا على إلغاء الخلافة، ولذلك رفعت الجماعة شعار إعادة إحياء الخلافة من جديد، وسيسير على هذا النهج معظم جماعات الإسلام السياسي مرورًا بحزب التحرير الإسلامي وانتهاءً بداعش.
والحق أن مسألة انتقال الخلافة إلى سلاطين آل عثمان كما يراها الترك، أو ادِّعاء العثمانيين تَقَلُّد الخلافة كما يراها العرب، هي من الأمور المثيرة للجدل على المستويين التاريخي والسياسي حتى الآن.
ومن أهم النقاط المثيرة للجدل في هذا الشأن، مسألة عدم شرعية انتقال الخلافة إلى سلاطين آل عثمان، لأن ذلك يخالف القاعدة الفقهية التي تقضي بأن الخلافة عربية، والحق أن المُتابِع للتاريخ الإسلامي سيلاحظ مدى احترام هذه القاعدة على مر الزمان ومتغيرات الخلافة الإسلامية؛ إذ كانت الخلافة الراشدة من العرب، وكذلك الخلافة الأموية سواءً في دمشق أو الأندلس، وأيضًا الخلافة العباسية سواء في بغداد أو في القاهرة.
من هنا كان خروج الخلافة من العرب بصفةٍ عامة، وانتقالها إلى آل عثمان محل جدل ونقد مستمر، ولقد سوِّغ العثمانيون مسألة انتقال الخلافة من العرب إلى الترك بفتاوى الضرورة التي أصدرها بعض المُفتين وأغلبهم من الترك؛ إذ حاول هؤلاء إيجاد مبرر شرعي للأمر تحت إلحاح الضرورة، وضعف شوكة العرب وقوة الترك وظهورهم بمظهر حُماة الإسلام، ومن ثم يجوز الخروج على القاعدة الفقهية، وانتقال الخلافة إلى آل عثمان. لكن الجدل لم ينقطع عبر التاريخ، وخاصةً مع ضعف الدولة العثمانية، حتى أن “عبد الرحمن الكواكبي” في مطلع القرن العشرين طالب بعودة خلافةٍ عربية.
ولم تكن مسألة مشروعية انتقال الخلافة إلى العنصر التركي هي المسألة الوحيدة المثيرة للجدل، فهناك نقاشاتٍ حادة بين المؤرخين حول انتقال الخلافة إلى سلاطين آل عثمان، أو حتى اهتمام هؤلاء بلقب الخلافة.
ويُرَوِّج المؤرخون الأتراك لفكرة انتقال آخر خليفة عباسي إلى إستانبول بعد دخول العثمانيين إلى مصر، ومبايعة الخليفة العباسي للسلطان العثماني، ومن ثم انتقال الخلافة إلى آل عثمان. ويختلف هؤلاء المؤرخون فيما بينهم حول السلطان الذي انتقلت إليه الخلافة، هل هو “سليم الأول” أم “سليمان القانوني”، أو حتى أحد السلاطين بعد ذلك.
ولكن الأمر المثير أن معظم المصادر العربية المعاصرة لدخول العثمانيين إلى مصر، وعلى رأسهم “ابن إياس”، لا تُشير إلى مسألة مبايعة الخليفة العباسي وانتقال الخلافة إلى سلاطين آل عثمان. والأكثر من ذلك أن العثمانيين فضلوا لقب “السلطان” على لقب “الخليفة”، ولذلك سنلاحظ شيوع لقب السلطان بنحو عام سواء في المصادر العربية أو التركية، ويرجع ذلك إلى تفضيل العثمانيين لمبدأ القوة، والسلطان هو الذي يرمز إلى ذلك.
وتُرَجِح معظم الدراسات الرصينة في مسألة الخلافة أن السلاطين العثمانيين لم يهتموا كثيرًا بلقب “الخليفة”؛ إذ إن الخلافة كانت قد فقدت بريقها ودورها التاريخي خاصةً مع سقوط بغداد على أيدي التتار. من هنا عَمَد سلاطين المماليك إلى إعادة إحياء الخلافة العباسية في مصر، ولكن على نحوٍ جديد، ينزع عن الخليفة السلطة الزمنية “أمور السياسة” التي أصبحت في يد المماليك، ويحوِّل الخليفة إلى رمز ديني مُجَرِّد يُبايِع السلاطين المماليك ويُعطيهم البركة، ويقوم بمباركة الجيوش قبل ذهابها إلى الحرب.
وهكذا عندما دخل العثمانيون إلى مصر كان الخليفة العباسي رمزًا دينيٍّا مجردًا لا حول له ولا قوة من الناحية السياسية، لذلك يرى الكثير من الباحثين أن السلاطين العثمانيين- حتى لو صِّح انتقال الخلافة إليهم- لم يهتموا كثيرًا بالخلافة؛ لأنها كانت قد فقدت بريقها السياسي، وأن عملية إعادة إحياء الخلافة بالمفهوم السياسي لم تحدث إلا بعد ذلك في القرن التاسع عشر، وتبلورت بصفةٍ خاصة في عهد السلطان “عبد الحميد الثاني”، في محاولته لمواجهة الضعف الذي دِّب في أوصال الدولة العثمانية حتى أصبح يُطلَق عليها “رجل أوربا المريض”، وفي محاولةٍ منه لمشاكسة أوربا -لا سيما روسيا- بأنه الزعيم الروحي للمسلمين في روسيا، ومشاكسة بريطانيا بادِّعاء سيادته الروحية على مُسلِمي الهند، التي كانت في ذلك الوقت أهم المستعمرات البريطانية.
هكذا حاول العثمانيون إعادة إحياء الخلافة لأسبابٍ سياسية، ولمحاولة تأكيد سلطانهم السياسي على رعاياهم، وأيضًا السيادة الروحية على المسلمين في أنحاء العالم. ولكن تطورات الأمور وهزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، دفعت بكمال آتاتورك إلى إلغاء الخلافة، والعمل على تأسيس تركيا الحديثة على أُسسٍ علمانية.