العثمانيون..

خلافةٌ بثياب المغول!!

استوعب السلاطين العثمانيون من بعد سليم الأول (1512م) أهمية منصب الخلافة الإسلامية في العالم العربي خاصة بعدما غير سليم الأول اتجاه جيوشه من الجوار الأوروبي إثر هزائمه المتتالية على أيدي الفرنسيين والإسبان إلى الجوار العربي مستوليًا على الشام والعراق ومصر والحرمين الشريفين.
العرب عاطفيون رومانسيون، وشكلت لهم الخلافة برومنسيتها أهمية بالغة في تلك المرحلة من التاريخ، لقد استوعبها المماليك من قبل ولذلك أنشأوا خلافة عباسية ثانية في القاهرة لتمنحهم الشرعية في الحكم، لكن العثمانيين وظّفوها بطريقة أخرى بعدما قرروا الاستيلاء عليها وتنصيب أنفسهم خلفاء.
هي في حقيقتها خلافة عثمانية غير شرعية مكنتهم من حكم العرب لأربعة قرون وجمع أجزاء متفرقة من الإقليم تحت حكم اسطنبول، بالتأكيد إنهم استلهموا التجربة المملوكية التي وجدوها أمامهم في القاهرة بعدما استباحها سليم الأول إثر معركة “مرج دابق” وهزيمة المماليك.
نعم فوجئ السلطان سليم بحجم تأثير منصب “الخليفة” على العرب، وهو القادم من مرجعية حكم مختلفة تقوم في أساسها على الصراعات والقتل بين الأسرة العثمانية الحاكمة؛ إذ هو نفسه اغتال والده وإخوته للوصول إلى الحكم.
كانت الخلافة العباسية الثانية قد استقرت لثلاثة قرون في القاهرة بعدما قضى المغول على الخلافة الأولى في بغداد (656هـ/1258م)، ووصل المماليك إلى توليفة سياسية مكنتهم من الحكم والحصول على الشرعية المهزوزة التي رافقت حكمهم في بدايته، تقول: خليفة عباسي صوري في القاهرة والحكم الفعلي للسلطان المملوكي، كانت آلية جديدة من صور الحكم في العالم العربي والإسلامي، تلك الشعوب التي استمرت طويلا تبحث عن صيغة مستقرة تغيرت باستمرار لألف سنة حتى سقطت الخلافة العباسية الثانية على يدي السلطان سليم الأول وتتحول من حاكمة لنفسها إلى شعوب محتلة.

كان تأثير استيلاء سليم الأول ومن بعده على منصب الخليفة عميقًا، فقد مكنهم من حكم الحرمين الشريفين أقدس مقدسات المسلمين لأول مرة، وليْطلِوُّا على العالم من منبرين لهما تأُثير هائل، أحدهما يجاور الكعبة، وآخر يجاور القبر النبوي الشريف، ومن خلالهما بقي منصب “الخلافة” المسروقة بأيديهم حتى أسقطهم الفرسان العرب العام 1918م.

لقد أسس العثمانيون -لأول مرة باستيلائهم على منصب الخليفة وتلبيسه “السلطانية”، وتوظيفه لصالحهم- ما يسمى بـ “الإسلام السياسي” الذي أثر في المنطقة والعالم تأثيرا سيئًا إلى الآن، فقد نزعوا عن المنصب شرعيته وتأثيره الديني، وجعلوه رداءً مجردا يلبسونه في اتجاه مصالحهم التركية، ويفرضون به سلطنتهم خاصة في الأجزاء العربية والإسلامية منها.
كان منصب الخلافة المزعومة موجها فقط للعالم العربي الذي وقع تحت الاحتلال العثماني لما يقارب الأربعة قرون، لكنه لم ينعكس على الإرث الحضاري في الإقليم العربي، لا في تعليمه ولا بنيته الاجتماعية ولا العمرانية ولا التنموية، فالأمويون عندما حكموا الشام تحت مظلة الخلافة آثروا الشام والحجاز ومصر، وكذلك العباسيون الذين أناروا بغداد وحولوها إلى عاصمة العالم حينها.
استخدم السلاطين العثمانيون الثلاثون لقب الخلافة المزعومة لثلاثة أهداف رئيسة، أولها: قمع أي محاولات للانفكاك “العربي” من تحت الاستعمار التركي بحجة مقاومة الخلافة الإسلامية، والثاني: ترسيخ مكانة الخليفة بواسطة الحرمين الشريفين والجمع بينهما فلا خلافة بلا حرمين، والثالث: كان تحويل العالم العربي إلى مزرعة خلفية للسلطنة تصدر الأموال والزكوات والضرائب لصالح الخزانة التركية في اسطنبول.

العثمانيون الجدد الذين نشأوا في تركيا الحديثة بعد العام (1924م) على إثر الانتكاسات المتتالية التي وجهتها السلطنة، فهموا أن إعادة “الخلافة السلطانية” التي أنشأها سليم الأول ورسَّخها عبد الحميد الأول من بعده، هي المفتاح الاقتصادي لثراء تركيا وترسيخها باعتبارها قوة في الإقليم، ولذلك هي في نهاية الأمر ليست سوى مشروع سياسي يحقق لتركيا أحلامها، فبعد تركيا دول المحور مع الألمان والإيطاليين، وبعد تركيا الاتحاد والترقي -ومن ثم تركيا الاتحاد الأوروبي- جاء دور “تركيا الخلافة” كلها مجرد أدوات سياسية للوصول إلى السيطرة والهيمنة.