بلاد فارس نظرة تاريخية
أطلق المؤرخون القدامى من اليونان والرومان على الشرق مُسمى الشرق الأدنى، وظلت هذه التسمية قائمة حتى يومنا هذا في التحقيب التاريخي مع إضافة القديم، وإن كان هناك من خالفها من المؤرخين قد نتفق أو نختلف معهم في ذلك، وعمومًا فالشرق الأدنى القديم “المصطلح الشائع” قد ضم العديد من الحضارات القديمة والأمم والأعراق البشرية المختلفة، التي شاركت بدورها قديمًا في البناء الحضاري والفكري والثقافي للإنسان وأسهمت كل أمة بحضارتها وموروثها الفكري والثقافي وطقوسها الدينية، وآثارها المعمارية.
ومن تلك الأمم الفرس الذين تعود أصول سلالتهم العِرقية إلى المجموعة الآرية، وهناك مَن عدّهم مِن أقدم الهجرات الهندية الأوروبية، الذين هاجروا إلى الهضبة الإيرانية خلال نهاية الألفية الثانية قبل الميلاد، وربما من القوقاز أو آسيا الوسطى، وهم في الأصل من الرعاة الذين جابوا السهوب مع ماشيتهم، كانوا مرتبطين عِرقيًا بالباكتريين والميديين والبارثيين في القرن الخامس قبل الميلاد.
ووصفهم المؤرخ اليوناني “هيرودوت” بأنهم ينقسمون إلى عدة قبائل مختلفة، أقواها كانت باسارجادي، التي كانت العشيرة الأخمينية جزءًا منها. وفي إقليم فارس قامت أول دولة فارسية وهي الإمبراطورية الأخمينية التي مهّد الميديون الطريق لظهورها، فقد ورث الأخمينيون أنظمتهم وتشريعاتهم وقوانينهم ودياناتهم وحتى أنماطهم الاجتماعية، وقد ادعى ملوكهم أنهم ينحدرون من مَلك شبه أسطوري يدعى “أخمينيس” الذي تسمّت به فيما بعد، وهذا الأمر يكاد يكون موجودًا في معظم الحضارات القديمة التي كانت الأساطير تشكّل هاجسًا كبيرًا في تكوينها وبنائها الفكري والسلطوي في إدارة الدولة وتمكينها من خلال تلك القصص والأساطير والخرافات.
فبلاد فارس لم تكن بعيدة عن ذلك الهاجس، فقد حكمتها عدة إمبراطوريات عبر التاريخ، كانت أولاها الدولة الميدية المشار إليها، ثم الدولة الأخمينية التي قامت بقيادة مُؤسّسها الملك كورش الثّاني “سيروس الثّاني” حيث احتل عاصمة الميديين المعروفة باسم “إكباتانا” همدان الحالية، وسيطر على مقاليد الأمور في الإمبراطوريّة الميدية بشكلٍ تام، وكان احتلاله لميديا الخطوة الأولى نحو تأسيسه بلاد فارس الكبرى، وخاض مجموعة من الحروب الأُخرى التي اعتمد فيها على إنشاء تحالفات مع العديد من الحُكام والملوك. وبعد انتهاء حُكم الملك كورش حكم ابنه كامبيسيس الثّاني بلاد فارس وضمّ إليها مصر، ولكن اندلاع بعض المشاكل والصراعات أدّى إلى قتله، ليستلم الحُكم بعد ذلك داريوس الأوّل الذي استطاع أن يستعيدَ السيطرة على الإمبراطوريّة الفارسيّة من جديد، وحرص على تقسيمها إلى حوالي عشرين مقاطعة.
يرى أحد المؤرخين أن الإمبراطورية الأخمينية كانت شيئًا مختلفًا تمامًا عن سابقاتها، إذ كانت أول إمبراطورية عالمية إن صح التعبير، فهي إمبراطورية أفروأوراسية لأنها شملت أجزاء من إفريقيا وآسيا وأوروبا، وقد توسعت تلك الإمبراطورية من شرق البحر الأبيض المتوسط إلى الحدود الغربية مع الهند، وتضمنت مجموعة متنوعة من الثقافات والمجموعات العرقية، حتى غزاها الإسكندر الأكبر في القرن الرابع قبل الميلاد، وتتكلم تلك الشعوب الفارسية باعتبارها لغة أصيلة، وهي من اللغات الهندوأوروبية.
ويقول “ول ديورانت” في كتابه قصة الحضارة عن الفرس: “فالميديون هم الذين أعطوا فارس لغتهم الآرية، وهم الذين أعطوها حروف هجائهم التي تبلغ ستة وثلاثين حرفا، وهم الذين علّموهم الإكثار من استعمال الأعمدة في البنايات.. وهم الذين لقنوهم قوانينهم الأخلاقية، وهم الذين أرشدوهم إلى أن يعتمدوا أثناء السلم على الزراعة.. وهم الذين لقنوهم دين زرادشت، فالعنصر الفارسي لم يتميز عن غيره من الأعراق الأخرى في شيء عدا أنه استفاد من الحضارات التي سبقته وحاول أن يجيرها لمصلحته بعدما أصبحت له القوة المهيمنة والمسيطرة على مصائر الشعوب، والثابت تاريخيًّا أن اختلاط عدد من الشعوب والعرقيات أسهم في تشكيل هوية مختلطة للفرس، حيث استوعبت عددًا من العرقيات مثل الترك واليونانيين والعرب وغيرهم كان لهم الدور الكبير في نهوضها الحضاري.