العدوان الفارسي الأول في التاريخ على العرب

"ذو الأكتاف" غزا شرق الجزيرة العربية... والرواة بالغوا في توغله إلى اليمامة

أول اقتحام فارسي للجزيرة العربية في التاريخ القديم شنَّه الملك الفارسي سابور الثاني أو “شابور”، الذي جاء إلى جزيرة العرب غازيًا  ومدمرًا على خلفية توتر العلاقة بينه وشرق الجزيرة لعقود طويلة كما تؤكد المصادر التاريخية، بعد أن وصلت القبائل العربية إلى حدود المملكة الفارسية في بحثها عن مصادر الحياة بعيدًا عن جزيرتهم القاحلة قليلة المياه والزاد، وذلك الأمر استثار الفرس كثيرًا، ودفع سابور للانتقام من عرب الجزيرة، والهجوم عليهم في عقر دارهم. 

سابور لم يكن ملكًا عاديًّا من ملوك فارس القدماء؛ إذ كانت له شخصية متعالية وحادَّة باعتبار أنه توِّج ملكًا وهو في بطنِ أمه بعد أن مات أبوه، حيث أتى رجال الحكمة والدين الزرادشت بتاج أبيه ووضعوه على بطنِ أمه، وظلَّ الموابذة يحكمون باسمه ووصاية أمه عليه إلى أن بلغ السادسة عشرة من عمره ليتولى أمور دولته بشكلٍ مباشر، وبذلك حكم بلاده 70 سنةً خلال الفترة (309-379م).

ولأن سابور كان يُعامل باعتباره ملكًا قبل ولادته وإدراكه؛ تكوَّنت لديه شخصية متعالية وشرسة جدًا، ولظروف مملكته التي شاع بين جيرانها أن ملكها كان طفلاً طمع الكثير منهم في مدِّ نفوذهم إليها، وكانت دولة الروم أكثر أولئك الطامعين، وبعض القبائل العربية التي كانت قد وصلت إلى حدود مملكته الفارسية بحثًا عن أراضٍ يجدون فيها الكلأ والماء، فخاضت مملكة الفرس في عهد سابور معارك عدة مع الطامعين.

ولأن أقرب أرضٍ عربية لمملكة الفرس كانت العراق، التي تسيطر عليها مجموعة من قبائل العرب بزعامة قبيلة إياد من تلك الفترة المبكرة من تاريخ الدولة الساسانية، لذلك كان الاحتكاك دائمًا بين قبائل العرب في العراق والمناطق الجنوبية الغربية من فارس.

وعطفًا على هذا الواقع الذي وجد سابور نفسه أمامه، أراد تأمين حدوده من الروم أولاً، فسيّر حملاته على الرومان، وزحف إلى قلعة أمد الحصينة (ديار بكر حالياً) واستولى عليها بمشقة عام (360م)، ثم خاض معارك طاحنة على شاطئ دجلة مع إمبراطور الروم جوليان، الذي عبر نهر الفرات واستولى على مدن ما بين النهرين، ومنها مدينة فيروز سابور، وقد اضطر الروم لاحقًا إلى قبول الصلح مع سابور، ووقّع الإمبراطور الروماني معاهدة تعيد إلى فارس البلاد التي كانت قد فقدتها، واتفق الطرفان على التوقف عن الحروب وفرض حالة السلم بينهما.

ونظرًا للصلح الفارسي الروماني؛ لم يبقَ أمام سابور عدوًا يخوض معه حربه التي بدأها إلا العرب الذين كانوا في منتصف أرض المعركة بينه وبين والروم، وكانوا مصدر قلقٍ دائم بالنسبة لسابور؛ لأنهم سادة العراق وأهله. لذلك يقول المؤرخ المسعودي في كتابه مروج الذهب: “فلما كبر  سابور استرد أجزاءً واسعة من مملكته، ثم توجه نحو العراق فأوقع بهم فعمهم القتل، واستطاع سابور تأمين المناطق الجنوبية من الإمبراطورية، ولم يفلت منهم إلا نفر لحقوا بأرض الروم، وفي كربلاء حفر سابور خندقًا قديمًا يمر بالكوفة لصد هجمات أعدائه على مملكته، ومن هنا نعرف أن الوظيفة الأساسية لخندق سابور هي وظيفة دفاعية بالدرجة الأولى، هذه الوظيفة نقلها الصحابي الجليل سلمان الفارسي إلى المدينة المنورة وشرحها للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق وتم تطبيقها، وهي -فيما يبدو- طريقة عسكرية فارسية موغلة في القدم”.

وما أن قرر سابور الثاني الحرب ضد العرب إلا وقد بلغ عداؤه لهم مبلغه، وكان لأهل البحرين والعراق النصيب الأول من الإبادة والتنكيل. ويقول الباحث شاكر مجيد الشطري في كتابه تأريخ الإمبراطورية الفارسية:  “بدأ سابور  أولى حروبه ضد العرب في أرض السواد أو العراق فأهلكهم قتلاً وتعذيبًا فتعمد أذاهم وإخراجهم من بلادهم، خصوصًا قبيلة إياد، على هذا الوضع الحاقد تمكّن سابور من الفتك بالعرب وقتل من إياد وتميم عددًا  كبيرًا،  وشنّت جيوشه حملات إبادة ففر بعضهم إلى الروم وبعضهم إلى البحرين شرق الجزيرة العربية، فطاردهم إلى البحرين وسار  إلى الأحساء والقطيف، ثم عاد إلى ديار بكر  وفتك بهم أيضًا، ثم إلى اليمامة متعمقًا  داخل الجزيرة العربية، ومن يخالفه يخلع أكتافه، ولذلك سمي بذي الأكتاف، ويقال إنه كان يصلبهم من أكتافهم على الجبال”.

كما يقول العراقي جواد علي في كتابه “المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام”: “يذكر  أهل الأخبار  أن سابور إنما لقٌب بـ “ذي الأكتاف”؛ لأنه خلع أكتاف العرب”، ولا يستبعِد جواد خلع سابور أكتاف العرب، فقد كان مثل هذا التعذيب القاسي المؤلم معروفًا في أيامهم تلك.

بعد أن أنهى سابور حملته الأولى على شرق الجزيرة العربية، توغل غربًا باتجاه اليمامة ثم المدينة المنورة، حيث هاجم البوادي والمدن، ولم يكتف سابور  بالقتل والترويع بل قام بترحيل قسري لبعض القبائل العربية بالقوة، فيما يبدو لفك تحالفاتها وتشتيت قوتها وإبقائها في متاهة حتى لا تستقر  وتستقوي على الفرس من جديد، إذ قام بترحيل تغلب إلى البحرين والخط وعبد القيس وتميم إلى هجر،  وبكر بن وائل إلى كرمان وبني حنظلة إلى مكان بالقرب من الأهواز، ومن أجل منع العرب من القيام بغارات في بلاده أمر سابور الثاني ببناء جدار  قرب مدينة الحيرة التي أصبحت تعرف عند العرب باسم “جدار العرب”، كل ذلك مهّد إلى حرب عربية فارسية جاءت قبل الإسلام هي معركة ذي قار التي انتهت بانكسار الجيش الساساني وانتصار العرب، وليتلوها ببضع سنين المعركة الكبرى “القادسية” التي قضت على حكم الفرس تمامًا وانتقمت من غزوهم للجزيرة العربية.

مثَّل العرب قلقًا للفرس، وحملة سابور الثاني على جزيرة العرب مهَّدت للمعركة الكبرى في ذي قار.

تلخص الباحثة منيرة محمد عنتر في كتابها حملة سابور على شرق الجزيرة العربية ما يمكن وصفه بالتحليل الأقرب إلى واقع الأحداث في تلك الفترة – شحيحة المصادر – إذ تعيدها في أساسها إلى حرب على طرق التجارة، وتقول: “من الممكن أن نقول أن تأريخ  هذه الحملة وضع تساؤلات أكثر منها استنتاجات بالنسبة لتأريخ الجزيرة العربية في تلك الفترة (القرن الثالث إلى القرن الخامس) حيث وجدنا كثيرًا من التعقيدات التي شابت الأحداث: صراع على طرق التجارة سواء البرية أم البحرية، لازم هذا الصراع صراع ديني، حيث أسبغ الرومان الدين على كل حادثة أو مطمع لهم في الجزيرة العربية. والصراع في أرمينيا بين القوتين الفارسية والرومانية” باسم الدين. كذلك حملة الملك العربي امرئ القيس، الذي ترك تبعية الفرس وانحاز إلى الرومان.

كل ذلك كان من الأسباب غير المباشرة لتلك الحملة، التي حاول فيها الفرس تأسيس وجود لهم في شرق الجزيرة العربية يقاوم امتداد الرومان في وسط الجزيرة العربية، حيث وجدنا المصادر سواء الكلاسيكية أم العربية تتفق على حدوث حملة فارسية على شرق الجزيرة العربية في عهد الملك الفارسي سابور الثاني على الرغم من المبالغة الشديدة في المصادر العربية التي وصلت إلى ذكر حوادث يصعب تصورها.

حملة سابور الثاني على الجزيرة العربية كانت جزءًا من صراعٍ أكبر بين الفرس والرومان، ولم تكن الحملة حادثًا منفصلاً ولكنها كانت جزءًا من حرب استمرت طيلة عهد سابور بعد نقضه معاهدة الصلح التي عقدت مع الرومان واستمرت أربعين عامًا، وكما رأينا من المصادر أنها انتهت باسترجاع الأملاك الفارسية في أرمينيا التي انتشرت بها المسيحية، وتوثقت الصلات بينها وبين الرومان في شمال العراق، ويبدو أن استيلاء سابور  على غرب الفرات وامتداد نفوذه في شمال العراق قد تزامن تقريبًا على استيلاء قواته على شرق الجزيرة العربية، وزحف الجيوش الفارسية إلى الحدود الرومانية في وسط الجزيرة العربية، وهذا ما حدا بقسطنطيوس إلى المبادرة بإرسال بعثته الديبلوماسية لمواجهة الفرس في جنوب غرب الجزيرة العربية.

لكن من خلال تتبع المصادر التاريخية وتناولها حملة سابور ذي الأكتاف على الجزيرة العربية؛ يتبين التناقض والتباين في الحديث عن تفاصيلها، إذ إن أكثر ما طُرح عن هذه الحملة كان من بابِ المبالغة، خاصةً ما يتعلق بتوغل حملة سابور إلى وسط الجزيرة العربية، فمن غير المنطقي أن يتجاوز سابور شرق الجزيرة التي وصل إليها في طريق حملته، لا سيما أن التوغل غربًا إلى اليمامة ومحيطها يُعد مجازفة كبرى في زمن سابور، فالعرب من الصعب التوصل إليهم في أواسط ديارهم، خاصةً أن تجربة الحملة الرومانية على جنوب الجزيرة العربية من شمالها تثبت هذه النظرية في أن دخول القوات إلى وسط الجزيرة مهلك للجيوش، لا سيما أن العرب كانوا يعون جيدًا كيف يناورون العدو على أرضهم وبين آبارهم التي لا يعرفها غيرهم

وفي المحصلة فإن سابور على الأغلب لم يجتز شرق الجزيرة العربية، إذ كانت أقصى مكان وصل إليه، وما جاء من مبالغات الرواة والإخباريين ودونته كتب التاريخ فيه من التناقض ما يؤكد صعوبة تصديقه وإثباته.

  1. أبو الحسن المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر (بيروت: المكتبة العصرية، 2005).

 

  1. جواد علي، المُفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ط4 (بيروت: دار الساقي، 2001).

 

  1. شاكر الشطري، تاريخ الإمبراطورية الفارسية القديمة ومراحل حكمها في العراق قبل الميلاد وبعده (بغداد: مكتبة العمية، 2015).

 

  1. منيرة الهمشري، “حملة سابور على شرق الجزيرة العربية: نظرة من خلال المصادر الكلاسيكية والعربية”، مجلة بحوث الشرق الأوسط، جامعة عين شمس، ع. 30 (2012).

الحقد والعنصرية الفارسية متأصلة منذ عصورٍ مبكرة

أحدثت حملة "سابور" تغييرًا في جغرافية السكان العرب في العراق والشام

لم تكن العداوة بين العرب والفرس حديثة العهد، بل قديمة في التاريخ، فبعدما حلّت الأسرة الساسانية محل البارثيين سنة (225م)، سار الساسانيون على نهجهم في التسلط والاعتداء على الحدود الغربية للإمبراطورية، وذلك بعد أن أسس الساسانيون موانئ بحرية ونهرية للتوسع ومد نفوذهم السياسي والتجاري والديني في المنطقة.

أما ملكهم سابور الثاني (310-379م) فقد وصفه المؤرخ اليوناني الذي عاصره أمانيوس ماركلينوس بأنه “ملك فارسي همجي”، خاصةً بعد أن تعامل مع القبائل العربية بالفتك والقتل الوحشي ومهاجمتهم في شرق الجزيرة العربية، نتيجة تمدد قبيلة إياد من سواد العراق إلى جنوبي إيران، تحديدًا منطقة الأحواز العربية المشرفة على الخليج العربي. خاصةً أن القبائل العربية أصبحت سيدة الموقف، ولها السلطة العليا وباتت تهدد الهيمنة الساسانية في فارس نفسها، وهذا ما أثبتته المصادر الكلاسيكية التي أكدت أن العرب كانوا رواد النشاط التجاري البحري، ذلك ما أثر سلبًا على السلطة الساسانية واقتصادها.

فاجأ سابور الثاني قبيلة إياد في سواد العراق بهجومٍ مفاجئ، ولم يفلت من بطشه سوى من هرب إلى أرض الروم. وكان لهذا الهجوم إرهاصات لم يتَنَبَّه إليها عرب إياد، حيث وردهم تحذير من أحد سجناء الفرس من العرب “لُقيط” الذي أرسل لهم قصيدةً شعريةً قال فيها:

لم يشفِ هجوم سابور الثاني على إياد غليله ضد العرب، بل قرر مهاجمتهم في شرق الجزيرة العربية، حيث يُشار إلى أنه هاجم خلقًا وأفشى القتل في هَجر، التي كانت تقطنها تميم وبكر بن وائل وعبدالقيس. وقد بالغت بعض المرويات في أنه توغل غربًا في الجزيرة العربية حتى وصل اليمامة وأحدث فيها مقتلة، إلا أن هذا يتعارض مع حال الجزيرة العربية وقتها، فمن غير المنطقي أن تتجرأ قوى العالم القديم على غزو وسط الجزيرة الذي كان مهلكةً للغزاة.

ومما هو متداول عن حملة سابور الثاني على شرق الجزيرة العربية أنه اتخذ خطة عسكرية خبيثة، طمر فيها المياه وردم الآبار، ليُحدث جدبًا بين العرب ويضيق عليهم، ثم عاد نحو بلاد بكر و تغلب فيما بين مملكة فارس و “مناظر الروم” بأرض الشام، ففعل بها ما فعله بغيرهم، وأحدث تغييرًا في جغرافية سكان المناطق التي هاجمها حيث أسكن من كان من بني تغلب من البحرين دارين، وعبدالقيس وطوائف من بني تميم هَجر، وبكر بن وائل كرمان، وهم الذين يدعون بكر بن أبان، ومن كان من بني حنظلة “الرميلة” من أرض الأحواز.

يصف ابن جرير الطبري حملات سابور الثاني العسكرية بأنها كانت واسعة، شملت أراضٍ بعيدة، بدأت بمن نزل أرض فارس من العرب ممن أناخ على أبرشهر وسواحل أردشير وأسياف فارس، ثم السواحل المقابلة لإيران من بلاد العرب، وهو ما يؤكد أن الحملة تضمّنت تغييرًا ديموغرافيًا للقبائل العربية بالقوة والجبروت والوحشية المطلقة.

وسواء كانت تلك الحملات الوحشية ضد القبائل العربية بهدف إخضاعها، أو إعادة بعضها للنفوذ والسيادة الساسانية من الناحية السياسية أو الدينية، إلا أن الجانب الاقتصادي كان حاضرًا بقوة، لما تميزت به جزيرة العرب من الإشراف على الطرق التجارية البحرية والبرية، باعتبارها ملتقى الطرق التجارية في العالم القديم، وقد ذهبت القبائل العربية ضحية لتلك السياسات القمعية من قبل سابور الثاني، الذي لقبته القبائل العربية باسم (ذي الأكتاف) لوحشية تعامله مع زعماء القبائل العرب المعارضين؛ لأنه كان يخلع أكتافهم  بصورة غير إنسانية، وقيل لأنه يثقب أكتاف الأسرى ويربطهم ببعضهم.

لم يكتف سابور الثاني بملاحقة العرب المتاخمين له بل تشفَّى بقتلهم والتمثيل بهم.

  1. محمد الطبري، تاريخ الرسل والملوك، تحقيق: محمد أبوفضل إبراهيم (القاهرة: دار المعارف، 1968).

 

  1. جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ط2 (بغداد: جامعة بغداد، 1993).

 

  1. عبد عون الروضان، موسوعة تاريخ العرب، ( عمّان: الأهلية، 2004).

 

  1. محمد بيومي مهران، دراسات في تاريخ العرب القديم (الإسكندرية: دار المعرفة الجامعية، 2000).

 

  1. منيرة الهمشري، “حملة سابور على شرق الجزيرة العربية: نظرة من خلال المصادر الكلاسيكية والعربية”، مجلة بحوث الشرق الأوسط، جامعة عين شمس، ع. 30 (2012).
تشغيل الفيديو

كانت البداية باضطهاد نصارى العرب

تعاليم "سابور" أهم أولويات "حكماء قُم" العنصرية

العداء التاريخي للفرس ضد العرب قديمٌ ومستحكم، بدأه سابور ذو الأكتاف، الذي ترجم الغضب الفارسي الذي لم يتخيل أن عرب الجزيرة سيمدون نفوذهم في أرض الفرس يومًا، لذا كانت حملة سابور مبدأ الأزمة الفارسية تجاه العُقدة العربية التي ترجمها بحملته البربرية على العرب، والتي أثرت في تحول كبير في العداء إلى صراع دائم ومستمر على مر التاريخ إلى يومنا الحالي.

مارس الفرس منذ صراعهم الأول مع العرب الإرهاب فالتطرف، إذ إن التطرف مرحلة متطورة من الإرهاب بالقيام بأفعال مادية تعد تعبيرًا طَبَعِيًّا عن نمط تفكير شاذ، تغذى من المجتمع أو السلطة أو التلقين الذاتي.

من هذا المنطلق، فإن الحشد العرقي الذي راكمته وأجَّجَته الديانات الفارسية القديمة، قد أضيفت إليه رغبة الفرس في طرد العرب من جنوب أرضهم، ثم إخضاع مناطق الخليج العربي، وهو ما جعلهم يخططون لاحتلال الجانب المقابل للخليج باعتباره مقدمة لـتحقيق الأمن والاستقرار للدولة الساسانية، خاصة في ظل صعوبة استغلال الساحل المقابل للعرب.

التاريخ يكشف عقلية الفرس وأسباب حقدهم تجاه كل من هو عربي

وارتباطًا بنقطة البحث يمكن القول بأن سابور الثاني، أو ذي الأكتاف، تبنى سياسة عِرقية واستعمارية أخذت تتسع في الاتجاهات الأربع، وخاصة نحو جنوب فارس ومنه إلى الجزيرة العربية، التي خصها بحملة عسكرية في بداية حكمه، ويبدو أن أولى الأهداف التي وضعها سابور نُصب عينيه اجتثاث العرب وغزو أراضيهم وهو لا يزال ابن 16 من عمره.

لذلك اختار سابور ألفًا من صناديد جنده وخاطبهم بلهجة انتقامية، وأمرهم بقتل من يقابلوه من العرب، وهو ما حدث بالفعل، ناهيك عن الأسر بطريقة تخالف الفطرة والإنسانية، حينما رفض الفداء في أسرى عرب شرق الجزيرة العربية.

أمعن سابور في قتل العرب والتمثيل بجثثهم وضرب رقابهم، ذلك ما عكس بنية الفرس السلوكية العنصرية الحاقدة على كل ما هو عربي، خاصة إذا ما علمنا أن سابور الثاني انتهج هذه السياسة الدموية وهو في مقتبل العمر، هذا المعطى يؤكد بأن سابور تربى على عقيدة كراهية العرب والرغبة في استئصالهم ونهب أراضيهم.

ولتتبع أصل هذا الكره العنصري لسابور تجاه العرب، فلا بد من تفسير سياسة سابور الأول تجاه العرب الذي يُعد أول من بدأ اضطهاد نصارى العرب في دولة فارس.

في هذا الصدد، يرسم لنا ابن جرير الطبري صورة قاتمة عن القرن الرابع الميلادي فيقول: “ثم مضى على وجهه، فورد هجر، وبها ناس من أعراب تميم وبكر بن وائل وعبد القيس، فأفشى فيهم القتل، وسفك فيهم من الدماء سفكا سالت كسيل المطر…ثم عطف إلى بلاد عبد القيس، فأباد أهلها إلا من هرب منهم…ثم أتى اليمامة، فقتل بها مثل تلك المقتلة، ولم يمر بماء من مياه العرب إلا عوّره، ولا جبّ من جبابهم إلا طمّه”.

وفي محاولة تشريح البنية السلوكية لسابور الثاني فإننا أمام شخصية دموية متشبعة بعقيدة دينية-عرقية متطرفة، اجتهدت في تحويل بلاد فارس إلى أرض خالصة للفرس المتشبعين بعقيدة الشمس وتعاليم الزرادشتية، لذا كان تنكيل سابور الثاني بنصارى العرب وبدئه بهم، حيث قام بمذبحة رؤساء الكنيسة العرب، ثم انتقل إلى عموم النصارى، وتعبيرًا عن عميق حقده عليهم أمر بعدم دفن الضحايا وإبقائهم تحت الشمس طعامًا للطيور، وأقسم بالنار والشمس ألا يتوقف عن قتل النصارى حتى يتخلوا عن ديانتهم ويعبدوا الشمس.

وبعملية ربط ومقارنة السياسة العرقية للسياسة الإيرانية بعد سابور الثاني إلى يومنا نفهم منشأ تشكُل العقيدة العرقية الفارسية، التي تُعد المفتاح لفهم السياسة العدائية الإيرانية ضد جميع التشكيلات العرقية، كما تفيد المادة التاريخية بأن استغلال المعطى الديني في خدمة المشروع السياسي الفارسي ليست وليدة اليوم، وإنما هي استمرار لقرون من المراكمة العرقية والسلوكية.

ولهذا لم يكن غريبًا أن ينجح “حكماء قم” في تطويع المذهبية وتزييف رواياتها ولي عنق النص القرآني أو حتى “استبعاده” من أجل خدمة عقيدة عرقية استعلائية لا ترى مكانًا لغير الفرس في المنطقة…بل في العالم متى استطاعوا إلى ذلك سبيلا، وهي سياسة خلقت -في النهاية- شعورًا لدى العرب وفهمًا صحيحًا لما يُكِنّه الفرس تجاههم على مر العصور، سواء حقد عِرقي أم تاريخي.

  1. جواد علي، المُفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ط4 (بيروت: دار الساقي، 2001).

 

  1. شاكر الشطري، تاريخ الإمبراطورية الفارسية القديمة ومراحل حكمها في العراق قبل الميلاد وبعده (بغداد: مكتبة العمية، 2015).

 

  1. عبدالحكيم الكعبي، الجزيرة الفراتية وديارها العربية (دمشق: دار صفحات، 2009).

 

  1. محمد الطبري، تاريخ الرسل والملوك، تحقيق :محمد أبوفضل إبراهيم (القاهرة: دار المعارف، 1968).

 

  1. نورة النعيم، “علاقة الدولة الساسانية مع قبائل شرق ووسط الجزيرة العربية في القرنين الخامس والسادس الميلاديين”، مجلة المؤرخ العربي، اتحاد المؤرخين العرب بالقاهرة، ع.25 (2017).