"ذي قار"

المعركة العربية التي تغنى بها الشعراء واختزنتها الذاكرة الفارسية

كانت مملكة الحيرة من أهم الممالك العربية في شمال الجزيرة العربية في عصر ما قبل الإسلام، ولعبت دورًا مهمًا في حضارة العرب في ذلك العصر، ويُرجِع المؤرخون نشأتها إلى فترة ضعف الدولة البارثية، وبدايات تأسيس الدولة الساسانية؛ حيث اضطر الفرس إلى السماح بقيام مملكة الحيرة بعد عجزهم عن مواجهة عرب الصحراء، وعلى هذا كانت الحيرة مملكة عربية بمثابة الكيان الحاجز بين عرب صحراء الجزيرة العربية والدولة الساسانية، وفي الوقت نفسه لعبت دورًا مهمًا أثناء الصراع بين الفرس والروم.

تقع الحيرة على نهر الفرات بالقرب من أنقاض بابل القديمة، وقيل إن العرب سموها الحيرة كنايةً عن الحيرة والضلال، لكن الأقرب إلى الدقة أن كلمة الحيرة أصلها من اللغة السريانية من كلمة “حرتا” بمعنى الدير أو الحصن، ومعظم سكان الحيرة من عرب التنوخ، وغيرهم ممن عُرفوا بالأحلاف من العرب الذين هاجروا وانضموا إلى سكان الحيرة، وكذلك من عُرفوا بـ”العباد” وهم السكان الأصليون من النصارى.

يُعَدُّ المناذرة أشهر حكام الحيرة العرب، الذين أثروا في السياسة الداخلية للإمبراطورية الفارسية، ومن ذلك ما قام به المنذر الأول (418- 462م) حين ناصر بهرام جور في النزاع الذي اندلع بينه وبين الكهنة عند توليه العرش.

لكن الفرس حرصوا على بسط نفوذهم على الحيرة وإضعاف ملوكها المناذرة، هؤلاء الملوك الأشداء الذين قال فيهم الأعشى شعرًا:

وحاول قباذ الفارسي فرض الديانة المزدكية على الحيرة، لكن المناذرة رفضوا ذلك بشدة، وهنا لجأ الفرس إلى سياسة المكر والدهاء وإثارة العرب بعضهم على بعض، فقاموا بتحريض الحارث ملك كندة على المناذرة.

لكن المأساة الكبرى كانت في عصر النعمان بن المنذر، الذي يُوصف بأنه شهم شجاع، والذي أعاد النصرانية إلى الملك، حيث اعتنق النعمان النصرانية على المذهب النسطوري، وأصبحت الحيرة من أهم معاقل حماية هذا المذهب، كما لجأ الجاثليق إيشو عياب الأول (582- 595م) إلى الحيرة نفسها.

وعلى إثر مشاحنات سياسية دب الخلاف بين النعمان وكسرى الفرس، وتتعدد الروايات حول أسباب هذا الخلاف؛ إذ يرى البعض غضب الفرس من اعتناق النعمان النصرانية، وهي ديانة أعدائهم الروم، بينما يرى البعض الآخر تخوف الفرس من ازدياد قوة النعمان نتيجة تحالفاته مع العديد من القبائل العربية، وكان هذا ضد سياسة الفرس، التي ترتكز على مبدأ “فرق تسد”.

ومن ناحيةٍ أخرى يُرجع البعض غدر الفرس بالنعمان لأسبابٍ شخصية؛ حيث طلب كسرى من النعمان جوادًا عربيًّا أصيلاً، لكن النعمان أَبَى على نفسه التنازل -كونه عربيًا- عن جواده، فغضب عليه كسرى، ويرى البعض الآخر أن أسباب الخلاف ترجع إلى نهم كسرى للنساء؛ إذ قال بعضهم لكسرى: “إن في الحيرة نساء جمعن كل أوصاف الجمال، فإذا بعثت إلى النعمان أرسل إليك منهن”، وقيل إن كسرى طلب هند بنت النعمان لنفسه.

على أية حال رفض النعمان بن المنذر بإباء وشمم العربي الكريم طلب كسرى، وهنا اشتد غضب كسرى عليه، وفي رأينا أنه مهما كانت الأسباب، فإن الباعث الحقيقي لغدر كسرى بالنعمان يرجع إلى رغبة الفرس في السيطرة المباشرة على إمارة الحيرة وثرواتها.

لعب كسرى لعبة الدهاء مع النعمان بن المنذر؛ إذ قام باستدعائه إلى المدائن، وأحس النعمان بالغدر، فقام بإرسال نسائه وما يملك إلى هانئ بن مسعود سيد قبيلة بكر بن وائل، لتكون وديعة لديه، وتختلف الروايات حول مصير النعمان في المدائن، وكيف غدر به كسرى بعد أن آمنه؛ إذ يرى بعضهم أنه قُضِيَ عليه بالسم، وقيل إن النعمان استمر في سجن كسرى حتى مات.

لم يكتف كسرى بغدره بالنعمان، بل أرسل إلى هانئ بن مسعود يطلب ودائع النعمان التي تركها لديه، ورفض هانئ تسليم الودائع إلى كسرى صونًا لعهده مع النعمان، واحترامًا للكرامة العربية.

"بكر بن وائل" كسرت شوكة كسرى قبل الإسلام، وغيرت استراتيجية الحرب المباشرة إلى الحرب بالوكالة إلى اليوم.

وكانت هذه الوقائع بداية للموقعة الشهيرة في التاريخ العربي بموقعة ذي قار، هذه الموقعة التي دارت فيها الدائرة على الفرس ومن والاهم من العرب، وانتصر فيها التحالف العربي، وأصبحت ذي قار من أهم الأيام الخالدة في تاريخ العرب القديم. وأنشد الشاعر العربي أبو تمام في مدح انتصار العرب على الفرس قائلاً:

  1. جرجي زيدان: فتاة غسان (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2012).

 

  1. شيماء السامرائي، العلاقة بين مملكة الحيرة وقبائل نجد وشرق الجزيرة العربية قبل الإسلام، رسالة ماجستير، جامعة تكريت، العراق (2009).

 

  1. عبد الوهاب عزام، الصلات بين العرب والفرس وآدابهما في الجاهلية والإسلام (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2012).

 

  1. علي البغدادي، تاريخ ملوك الحيرة (القاهرة: المطبعة السلفية، 1920).

 

  1. محمد مبروك، عصر ما قبل الإسلام (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2017).

قتلوا قادتهم وفرسانهم وأعطوهم درسًا في الكرامة

"ذي قار".. اليوم الذي اتَّحدت فيه العرب وأذاقوا العنهجية الفارسية مرارة الهزيمة

بُلي العربُ منذ فجر التاريخ بجوار الفرس حتى يومنا الحالي، وللعربِ صولات وجولات ضدهم منذ القِدم، ورغم دخول الفرس الإسلام إلا أن أنفسهم انطوت على الحنق والكره والعنصرية المتوارثة لكل ما هو عربي، خاصة بعد تحطيم الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه آخر معاقلهم السياسية بعد معركة القادسية (636م)، التي أصبحت تشكل في العقل الفارسي الجمعي (الشعوبي) مصدرًا من مصادر الكره ضد العرب.

وإضافةً إلى القادسية؛ فإن للفرس تراكمات تاريخية قبل دخولهم الإسلام مع العرب، فمعركة ذي قار الشهيرة في زمن الجاهلية كانت إحدى أهم المعارك بين العرب والفرس، ومن المعلوم في التاريخ قبل الإسلام أن ممالك وقبائل عربية قد دانت بالولاء السياسي للفرس، ولعل أبرزها مملكة الحيرة التي كان أول ملوكها مالك بن فهم الأبرش، وابنه جذيمة الأبرش، ثم عمرو بن عدي، وأيضًا النعمان الذي بنى قصر الخورنق والسدير، وابنه المنذر وثم النعمان بن المنذر، وهو آخر الملوك من قبيلة لخم.

كانت من أهم أسباب معركة ذي قار الشهيرة في تاريخ العرب قبل الإسلام أن كسرى الفرس طالب بتركة النعمان بن المنذر، فأخبره إياس بن قبيصة  بأنها وديعة عند قبيلة بكر بن وائل، فأمره كسرى بضمها إليه، فأرسل إياس إلى هانئ بن مسعود الشيباني يأمره برد ودائع النعمان من أموال ودروع وكل ما يخصه حتى نسائه، وعددها كما ذكر الإخباريون ثمانمائة درع وقيل سبعة آلاف، فامتنع هانئ بن مسعود وأبى أن يُسلم ما استودعه عليه النعمان بن المنذر، فغضب كسرى أبرويز وهدد باستئصال بكر بن وائل، فنصحه النعمان بن زرعة التغلبي، وكان يكره بكر بن  وائل ويسعى لهلاكهم لما كان بينهم من أيام حرب البسوس، بأن يمهل بكرًا حتى الصيف فيهرعوا إلى ماء لهم يقال له “ذو قار”، فيتساقطون تساقط الفراش في النار، فيأخذهم كسرى ، فلما قاظت بكر بن وائل، ونزل بهم الحر الشديد، ونزلت الحنو وهو حنو ذي قار، أرسل إليهم كسرى النعمان بن زرعة يخيرهم بين ثلاث: إما الاستسلام لكسرى ليفعل بهم ما يراه، أو الرحيل أو الحرب.

وأمام تلك الخيارات المجحفة الظالمة في حق بكر بن وائل، ناصح حنظلة بن ثعلبة بن سيار العجلي قومه بكر بالقتال وحرب الفرس؛ لأنهم إذا استسلموا قتلوا وسبيت ذراريهم ونساؤهم، وإذا ارتحلوا قُتلوا عطشًا وتلقاهم أعداؤهم فأهلكوهم، وعند ذلك أرسل كسرى إليهم جيشًا من الفرس على رأسه الهامزر التستسري المرزبان الأعظم لكسرى، وكان يقود ألف فارس من العجم، وجلابزين صاحب مسلة بارق في ألف فارس، وخرج إياس بن قبيصة على الشهباء والدوسر، وهما كتيبتان جعلهما ملوك الفرس قوة عسكرية تابعة للمناذرة: رجال الشهباء من الفرس ورجال الدوسر من العرب التنوخيين على الأخص، ومعه خالد بن يزيد البهراني في قبيلتي بهراء وإياد، والنعمان بن زرعة التغلبي في تغلب، والنمر بن قاسط وقيس بن مسعود بن قيس ذي الجدين، وعامل كسرى وهو أحد ولاته على سفوان.

أمر كسرى أن يقود تلك الجيوش إياس بن قبيصة وتجتمع تحت لوائه، فلما أقبلت جيوش الفرس تسلل قيس بن مسعود ذي الجدين إلى معسكر هانئ بن مسعود، ونصحه بأن يوزع على قبيلته أسلحة النعمان يتسلحون بها ثم يردونها إليه، فاستجاب لنصيحته وقسّم الدروع والسلاح على ذوي القوة والجلد من قومه، فلما قربت حشود إياس بن قبيصة الطائي، خاف هانئ الهزيمة إذ لا طاقة لهم بجيوش كسرى ومن انضم معه من العرب.

وعز على حنظلة بن ثعلبة بن سيّار العجلي أن يفر العرب أمام الفرس وجيوشهم، ووقف قائمًا أمام هانئ وقال: “إنما أردت نجاتنا فلم تزد على أن ألقيتنا في الهلكة”، فردّ الناس، وقطع أوصال الهوادج حتى لا تستطيع بكرٌ أن تسوق نساءهم إذا هربوا فبدأ بقطع هودج امرأته، ثم أكمل كي يستحيل على النساء الفرار على النوق إذا فرَّ الرجال، وصاح: ألا فليعلم كلٌّ منكم أنه إذا خلَّى مكانه فقد أسْلَم حليلته للسبي، فقاتلوا في مدى ما بين الظفَر أو الموت، وإنه لمدى ضيق، وبادروا العدو بالشدة فذلك أوقع، ثم ضرب على نفسه قبة “خيمة ” ببطحاء ذي قار، وآلى على نفسه ألا يتراجع.

وزحف جيش كسرى يحمل أمتن العتاد وأوفره، وقد نهض هانئ بن مسعود الشيباني وقد قنِع بضرورة القتال، فأرسل كلمات فيها هدوء الحكمة قائلاً: إن الحذر لا يدفع القدر، وإن الصبر من أسباب الظفر، المنية ولا الدَّنيَّة. بعدها تعالت أصوات النساء في الحضِّ على البأس والبلاء، فصاحت امرأة عجلية:

ولما دنا جيش الفرس بالأفيال، خرج أحد الفرس يتحدَّى العرب للبراز، فلم يلبث طويلًا حتى انبرى له فارس عربي طعنه فدقَّ صلبه، فاغتاظ الهامرز وخرج بنفسه يدعو إلى البراز، فانبرى له فارس عربي هو الحوفزان، فألقاه صريعًا، وصُدم جيش الفرس، فمضى من مضى من الناس، ورجع أكثرهم، واستقوا ماءً لنصف شهر، فأتتهم الفرس، فقاتلتهم بالحنو، حتى جزع الفرس من العطش وهربوا، حتى تبعهم العرب وقاتلوهم. وحين ازداد عطش الفرس، ذهبوا إلى بطحاء ذي قار، وبعض العرب الذين كانوا مع الفرس هزَّهم الحنين إلى قومهم، فعزموا الانضمام إلى بني جلدتهم، وهم قبيلة إياد، وكانوا مع الجيش الفارسي. وكان الإياديون أصحابُ بأسٍ أذاقوا الفرس كثيرًا من الهزائم ، وقبل أن ينضم الإياديون إلى الفرس باعتبارهم جنودا مرتزقة، بعثوا إلى البكريين يقولون: أيٌّ أحبُّ إليكم، أن نلحق بكم الساعة أم أن ننتظر اشتداد المعركة فننتقل إلى جانبكم؟ فأجابهم البكريون: بل أحب إلينا أن تنتقلوا في غمار المعركة، فإنه أشد ضعضعة ودهشة للعدو.

تراجع قبيلة إياد عن دعم الفرس في ذي قار، وحميتهم قلبت موازين المعركة لصالح العرب.

وحين التحم الفريقان؛ لحق بنو إياد ببني بكر في عنفوان المعركة، ولم يستطع الفرس أن يجاروا العرب فذاقوا أول هزيمة أنزلها بهم العرب، وكان ذلك حافزًا أيقظ ثقة القبائل العربية بأنفسهم وجرَّأهم على مواجهة الفرس فكان يوم ذي قار مفاجأة للفرس، كما كان مفاجأة للعرب أنفسهم.

ويذكر الطبري في رواية من رواياته عن ذي قار: “أن الناس تآمروا (أي طلبوا أن يكون أحدهم عليهم أميرا) فولوا أمرهم حنظلة بن ثعلبة بن سيّار العجلي، وكانوا يَتَيَمَّنون به، فقال لهم: لا أرى إلا القتال، فتبعوا أمره، وهو الذي تولى إدارة القتال، فكان له شأن كبير فيه، وقد قاد قومه من “بني عجل” في ذلك القتال، فله النصيب الأكبر منه”.

وقد احتل حنظلة مكانة هانئ بن قبيصة بن هانئ بن مسعود، رئيس بكر في القتال الذي جرى في ذي قار في موضع الجب (البئر)، وكان هانئ يشعل القلوب أثناء الهجوم على الفرس يوم الجب في ذي قار، وكان على ميمنته يزيد بن مسهر الشيباني، و حنظلة بن ثعلبة بن سيّار العجلي على ميسرته يحميه من أي هجوم جانبي يقع عليه من الميسرة.

أما يزيد السَّكُوني حليف لبني شيبان، قد كمن مع قومه من بني شيبان في مكان من ذي قار، فلما جاء إياس بن قبيصة مع الفرس إلى هذا المكان، خرج مع كمينه، فباغت إياساً ومن معه، وولَّت إياد منهزمة، فساعد بذلك كثيراً في هزيمة الفرس.

وقد ذهب بعض الإخباريين إلى أن الحرب الرئيسة دارت على بني شيبان، ورئيس الحرب هو هانئ بن مسعود، أما حنظلة فكان صاحب الرأي، ولكن الذي يظهر من دراسة مختلِف الروايات أن شأن حنظلة في القتال كان أهم وأعظم من شأن هانئ فيه، حتى ذكرت بعض الروايات أنه هو الذي ولي أمر القتال بعد هانئ، وأن القوم صيّروا الأمر إليه بعد هانئ في معركة “جب ذي قار” وأنه هو الذي قتل “جلابزين”، وأن كتيبته “كتيبة عجل” قامت بأمر عظيم في هذه المعركة إلى أن انتهت بهزيمة الفرس.

استولت بكر بن وائل عند إياس ابن قبيصة على سواد العجم، وغنموا أموالهم، فتهادت النساء المسك في صحاف الذهب والفضة، وكانت تلك المعركة انتصارًا كبيرًا للعرب، دارت فيها الدائرة على كسرى وقومه، وقد تبارى الشعراء العرب في تخليد ذكرى الانتصار العظيم بقصائد شاهدة على أن العرب إذا اتحدوا فعلوا الأعاجيب.

  1. جرجي زيدان: فتاة غسان (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2012).

 

  1. جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ط2 (بغداد: جامعة بغداد، 1993).

 

  1. عبد الوهاب عزام، الصلات بين العرب والفرس وآدابهما في الجاهلية والإسلام (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2012).

 

  1. محمد الطبري، تاريخ الرسل والملوك، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم (القاهرة: مطابع دار المعارف، 1968).

 

  1. السيد عبد العزيز سالم، تاريخ العرب في عصر الجاهلية (بيروت: دار النهضة العربية للطباعة والنشر، د.ت).
تشغيل الفيديو

في معركة ذي قار

رفض العرب التبعيَّة ومزَّقوا خارطة حلم الجغرافيا الفارسية

إن دراسة تاريخ الفرس، أو أي ظاهرة ممتدةً في التاريخ مستمرةً في الحاضر، تبقى مدخلاً أساسيًّا لفهم البنية العِرقية الاستعلائية للفرس تجاه العرب، ومقدمة لا محيد عنها، لتفكيك عقيدة الحقد والكراهية التي ترسخت في اللاشعور الجماعي لحكام الفرس الإيرانيين.

وفي هذا السياق، يبقى من مساوئ الجغرافيا أن وضعت العرب إلى جانب كيان سياسيٍّ عِرقيٍّ يبتعد عن فلسفة الدولة وروحها ليتبنى عقيدة استعلائية توسعية مليئة بمشاعر الحقد والاستعباد والقتل والإرهاب، وإذا كانت المواجهات بين العرب والفرس سجالاً بين الطرفين، فإن العرب رسموا لوحات مشرقة من مقاومة المد والحقد الفارسيين، لتشكل معركة ذي قار إحدى هذه اللوحات التي أضحت جزءًا من تاريخ العرب والفرس على السواء.

المؤرخون لم يقطعوا القول في أسباب معركة ذي قار، وإن كان هناك اتفاق على نهاياتها ومآلاتها. وإذا كان البعض يرى بأن السبب المباشر للمعركة، هو أن كسرى أبرويز طلب على يد رسوله زيد بن عدي من ملك الحيرة النعمان بن المنذر، إرسال بعض حرائر فتياته، فامتنع عن تلبية رغبته، فإننا نعتقد بأن الأمر يتجاوز الاقتتال للحصول على فتاة أو غنيمة إلى محاولة إخضاع القبائل العربية التي تنحو إلى الاستقلال بقراراتها عن الفرس.

في هذا الصدد، يمكن رصد بعض مظاهر الصدام بين النعمان وكسرى، جسدتها مجموعة من المواقف، وهنا نشير إلى أن كسرى سبق له أن نقم على النعمان ملك الحيرة مُتَّهِمًا إياه برفضه مصاحبته إلى بلاد الروم حين كان هاربًا خوفا من بهرام جوبين.

إن هذا الطرح تقوّيه رواية إحدى المستشرقات الروسيات، التي تناولت محاولات استقلال النعمان بقراره السياسي عن كسرى، فتقول: “ولقد كشف ملك الحيرة هذا عن استقلاله في علاقاته مع ملك الفرس، ففي أيام محنة خسرو حين فر من بهرام (فرهران) فإن النعمان لم يمد له يد العون ولم يذهب معه. كذلك يقال إن النعمان رفض أن يهب خسروا جوادًا عربيًّا كريمًا كان قد طلبه منه”.

ولعل هذه المقدمات التي تفسر عداء كسرى للنعمان بن المنذر قد أُسْقِطَت من حسابات المؤرخين، في مقابل التركيز على أحد الأسباب التي تراكمت لاندلاع معركة ذي قار، المتمثل في رغبة كسرى في إحدى فتيات النعمان وجواريه، على اعتبار أن جمالهن يتطابق مع ما قرأه كسرى في إحدى الوثائق، حسب مكيدة زيد بن عدي الذي أراد الانتقام من النعمان قاتل أبيه.

وتتقاطع الروايات على رفض النعمان طلب كسرى حيث رد عليه قائلا: “أما في مها السواد وعين فارس ما يكفي به الملك حاجته؟”، وأمام هذا الرفض أمر كسرى النعمان بالمثول إليه، وهو ما استجاب له النعمان بعد محاولات عديدة للاستقواء بالقبائل العربية قبل أن يمتثل لأمر حاكم فارس بنصيحة من كبير قبيلة بني شيبان هانئ بن مسعود.

إن إصرار كسرى على إخضاع القبائل العربية، رغم تخلصه من النعمان، يقطع بأن مقدمات الصراع بينه وبين ابن المنذر لم تكن إلا أسبابًا مزيفة لتحقيق الهدف السياسي المتمثل في غزو العرب، ويبدو أن ملك الفرس قد استشار في مسألة غزو قبيلة بكر بن وائل، فأشار عليه أحدهم بانتظار فصل القيظ (الصيف) حيث يعاني العرب من قلة الماء، ويتجهون عادة إلى موضع ذي قار، ويبدو أن كسرى اقتنع بالاقتراح ورتب حيثيات تنفيذه.

ودون التفصيل في حيثيات المعركة التي حبلت بها بطون كتب التاريخ، فإن نخوة العرب ورفضهم الخضوع لحكم الفرس، ومعرفتهم العميقة بعقيدتهم العرقية دفعتهم إلى اختيار القتال ولا أن يقبلوا شروط رسل ملك الفرس المذلة.

لقد استطاع العرب، بفضل وحدة الصف وأصالة العرق وتوبة العرب الذين كانوا في صفوف جيش الفرس، ثم نجاحهم في ضرب مركز ثقل العدو ممثلاً في رؤوس جيشه في مواجهات فردية، منتصرين في هذه المعركة الفاصلة.

بعد معركة ذي قار أدرك العرب قوتهم الحقيقية حين اتحدوا في وجه الأطماع العرقيَّة الفارسية.

  1. حسن الجاف، تاريخ إيران السياسي (بيروت: الدار العربية للموسوعات، 2008م).

 

  1. رئيف خوري، مع العرب في التاريخ والأسطورة (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2019).

 

  1. السيد عبد العزيز سالم، تاريخ العرب في عصر الجاهلية (بيروت: دار النهضة العربية للطباعة والنشر، د.ت).

 

  1. محمد الطبري، تاريخ الرسل والملوك، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم (القاهرة: مطابع دار المعارف، 1968).

 

  1. نينا فكتور، العرب على حدود بيزنطة وإيران (موسكو: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب 1964).