المشــروع الفارسي

في عصر الدولة العباسية

أثَّر الفرس في بداية الدولة العباسية، وعملوا على تعزيز مركزهم وقوتهم ونفوذهم بين بني العباس، بإقناع الخلفاء بأنهم الأقدر على قيادة مرحلة التأسيس، كما سعوا إلى تشويه العناصر العربية، والتشكيك بكل من هو عربي؛ بأنه موالٍ للأمويين ودولتهم التي سقطت سنة (132هـ)، ومن هذا الباب -تحديدًا- كانت للفرس السطوة والقوة والتسلط.

وازداد الأمر سوءًا مع رغبة الفرس في جني ثمار مناصرتهم للدعوة العباسية، وجمع المغانم من وراء ذلك. من هنا ازداد توغلهم في شؤون الإدارة وسيطرتهم على الشؤون المالية للدولة، إذ أصبحوا هم المتحكمين في بيت المال، وبات واضحًا للجميع أن هذه السيطرة على اقتصاد الدولة أصبحت تشكل خطرًا جسيمًا على سلطة العباسيين أنفسهم.

ولعل سيرة أبي مسلم الخراساني خير مثال على ذلك في الفترة المبكرة من تاريخ الدولة العباسية؛ إذ لعب أبو مسلم الخراساني دورًا مهمًّا في نجاح الدعوة العباسية عن طريق أهله وعشيرته من أبناء خراسان، وأصبح يشكل -في حقيقة الأمر- مركزًا من أهم مراكز القوى في الدولة، وحرص في بداية عصر الدولة على فرض سيطرته على إدارة شؤون إقليم خراسان؛ نظرًا لغنى هذا الإقليم وحجم المتحصل منه. وكان واضحا أن أبا مسلم لم يُفَرِّق كثيرًا بين المال العام وماله الخاص، من هنا جمع ثروات طائلة انعكست على مظاهر البذخ في حياته، فضلاً عن عطاياه ومنحه لكسب ود الأنصار لحماية نفسه عند حدوث أي تقلبات سياسية في الدولة.

بدأ المخطط الفارسي منذ فترة مبكرة من التاريخ الإسلامي وتغوَّل في عصر العباسيين.

ويرصد لنا المؤرخ محمد الخضري تخوف أبي جعفر المنصور، وهو لا يزال آنذاك وليًا للعهد من ازدياد نفوذ أبي مسلم الخراساني، وأيضًا تعدياته على بيت المال، فضلاً عن استخدامه للمال في السياسة، لكسب ود الأنصار. ويحكي الخضري عن رحلة حج المنصور، وكان بصحبته أبو مسلم، وكيف لاحظ المنصور أن عطاء وهبات أبي مسلم على طول الطريق أكثر سخاءً من عطايا المنصور، وكأن أبا مسلم كان يتعمد إظهار نفوذه أمام الجميع. وقد أثار هذا الأمر أبا جعفر المنصور، وأدرك مدى الخطر الذي يمثله أبو مسلم.

وعندما تولى المنصور الخلافة كان لديه هاجس دائم أن أبا مسلم بإدارته لشؤون خراسان -أحد أغنى أقاليم الدولة- ربما يستغله فيقوم “بخلع المنصور ثم يختار للخلافة نجلاً آخر يكون تحت تصرفه وسلطانه فيعود الأمر إلى أهل فارس”. من هنا عمل المنصور لإبعاد أبي مسلم عن إدارة شؤون خراسان، وتوليته مكانًا آخر أقل أهمية وثراءً، لكن أبا مسلم رفض ذلك. كما عمد المنصور إلى إجراء محاسبة مالية لما حازه أبو مسلم من مغانم، لكن أبا مسلم رفض هذا الإجراء، ولعل عبارته التي قالها لرسول المنصور خير مثال على ذهنيته ونظرته إلى نفسه وإحساسه أنه هو الدولة، وليس للخليفة من شأن في ذلك؛ إذ قال: “أأكون أمينًا على الدماء، غير أمين على الأموال”، من هنا قرر أبو جعفر المنصور التخلص منه.

والأمر نفسه انسحب على أسرة البرامكة من بعد الخراساني مع الدولة العباسية، والتي أخذت فصلاً آخر من فصول سيطرة الفرس على مالية الدولة، وخطورة ذلك على صناعة القرار في الدولة، هذا فضلاً عن استخدامهم المال العام لخدمة مصالحهم الخاصة، بالإضافة إلى سوء الإدارة المالية لهم. وقد خصص الباحث الجزائري بشار قويدر فصلاً كاملاً للحديث عن البرامكة ودورهم في الإدارة المالية، وتحكمهم في بيت المال.

كما أن العنصر الفارسي سيطر بشكلٍ كامل على بيت مال المسلمين، وباتت موارد الدولة كلها تحت تصرفهم، وأثروا ثراءً فاحشًا لا نظير له، كما أسرفوا في البذخ على أنفسهم وعلى أنصارهم، وأدى ذلك إلى أن يتوجه أصحاب الحوائج إلى مجالسهم، وليس إلى المكان الطبيعي في مجالس الخلفاء. وبالقطع فقد كان ذلك أكبر تعدٍ على سلطة الدولة، كما أنه كان يمثل في الوقت نفسه أكبر حملة منظمة لتبديد المال العام، وإنهاك خزينة الدولة.

هكذا أدى الفساد المالي للعنصر الفارسي في إدارة شؤون دواويين الدولة إلى تذمر الأهالي من هذا الأمر، بالإضافة إلى إرهاق خزانة الدولة في مصاريف غير شرعية، فضلاً عن تكون مراكز قوى داخل الدولة. وكان من المحتم أن تنتبه الدولة إلى هذا السوس الذي ينخر في عصب الحكم والإدارة.

  1. أحمد أمين، هارون الرشيد (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2014).
  2. صالح رمضان، “النهج الشعوبي لدى البرامكة”، مجلة أبحاث كلية التربية الأساسية، جامعة الموصل، ع.4 (2010).
  3. قويدر بشار، دور أسرة البرامكة في تاريخ الدولة العباسية (الجزائر: معهد التاريخ، 1985م).
  4. علي العمرو، أثر الفرس السياسي في العصر العباسي الأول (القاهرة: مطبعة الدجوي، 1979).
  5. محمد دياب الأتليدي، إعلام الناس بما وقع للبرامكة مع بني العباس (بيروت: دار صادر، 1990).
  6. محمد برانق، البرامكة في ظلال الخلفاء (القاهرة: دار المعارف، د.ت).
  7. محمد شعبان، الدولة العباسية (بيروت: د.ن، 1981).