صناعة الأسطورة
أبو مسلم الخراساني والقومية الفارسية
يعتبر أبو مسلم الخراساني من الشخصيات المهمة في تاريخ الدولة العباسية، وتتَّسم سيرته بالكثير من الغرابة والإثارة حتى بعد مقتله، ينتمي أبو مسلم في الأصل إلى طائفة “الموالي”، وهم أبناء الفرس الذين دخلوا في كنف العرب بعد الفتح العربي لبلاد فارس، ومع انضمامه إلى الدعوة العباسية انتقلت إلى طَور جديد من مجرد دعوة دينية للرضا من آل البيت، وأحقيَّتهم في الخلافة، إلى حركة عسكرية من أجل تحقيق أهداف الدعوة، ويضع أحمد أمين أبا مسلم الخراساني ضمن العوامل المهمة وراء سقوط الدولة الأموية، وقيام الدولة العباسية، ويصفه قائلًا: “نجح -أبو مسلم الخراساني- نجاحًا باهرًا في الثورة على الأمويين، والدعوة للعباسيين، فاستطاع بذلك أن ينتقم من العرب”.
وكانت منطقة خراسان هي قاعدة الأساس والانطلاق لأبي مسلم نحو هدفه في إسقاط الدولة الأموية، ويرجع البعض ذلك إلى كونه فارسيًّا حاقدًا، خاصة أن أهل خراسان من أشد الحاقدين على العرب الفاتحين؛ إذ لم يَنسَ الفرس قطُّ مجدَهم القديم، وتجبُّرهم على العرب قبل الإسلام، كما لم يغفر الفرس للدولة الأموية أنها قامت أساسًا على العنصر العربي، وأنها لم تُقَرِّب العنصر الفارسي إلى دوائر الحكم.
من هنا ساند الفرس الدعوة العباسية، وعملوا من خلالها جديًّا على التخلص من النفوذ العربي، لتكون لهم السيادة والسلطان في الدولة الجديدة.. الدولة العباسية.
ويشير البعض إلى أن المهمة الأساسية التي عُهِد بها إلى أبي مسلم في خراسان كانت “إن قدرت ألا تُبقِي بخراسان مَن يتكلم بالعربية فافعل”، كما كان المبدأ الأساسي أيضًا الذي اتبعه أبو مسلم في تحركه العسكري في خراسان “اقتل مَن شَكَكت فيه”، لهذا يصِف البعض أبا مسلم بأنه “لم يكن يتأخَّر لحظة في قتل من دخله أقل ريب فيه حتى وصل إلى غرضه… وقد أُحصِي من قتله أبو مسلم فكان ستمائة ألف”.
كما تم اللعب على الثقافة والعقيدة الفارسية القديمة؛ من تبجيل الحاكم وأسرته، وأن الحكم منحة إلهية يمنحها الله وراثية في أسرة الحاكم، وبالتالي تم الترويج أن الخلافة في آل البيت، وأن الأمويين ما هم إلا مغتصبين لها، وأن الخروج عليهم مشروع للعودة للقاعدة الأساسية أن الخلافة في آل البيت.
وبالفعل استطاع أبو مسلم الخراساني هزيمة كل عمال بني أمية على خراسان، وأن تصبح خراسان وأهل خراسان هم عصب نجاح الدعوة، وقيام الدولة العباسية، ولا أدَلَّ على نفوذ أبي مسلم الخراساني بعد قيام الدولة العباسية من تسرُّب الشك إلى الخليفة العباسي أبي العباس السفاح تجاه أبي سلمة حفص بن سليمان، الذي كان يوصف بأنه “وزير آل محمد”، وهنا لم يجرؤ أبو العباس على قتل أبي سلمة إلا بعد التشاور مع أبي مسلم، والأكثر من ذلك أن الخليفة أرسل أخاه أبا جعفر المنصور إلى خراسان لعرض الأمر على أبي مسلم، ووافق الأخير على الأمر، بل وتعهد بتنفيذ ذلك.
ومن مظاهر ازدياد نفوذ أبي مسلم الخراساني وتغوُّله على سلطات رجال الدولة، بما فيهم الأسرة العباسية نفسها، ما حدث أثناء رحلة الحج التي قام بها أبو مسلم؛ إذ أمر الخليفة أبو العباس بأن يكون أبو جعفر المنصور هو المسؤول عن قافلة الحج في ذلك العام، حتى يَحُدُّ من نفوذ أبي مسلم، في محاولة لتأكيد الأمر أمام الرأي العام بقوة الدولة العباسية، لكن أبا مسلم الخراساني الذي وصل به غرور السلطة والترف حدَّه، كان يُجزِل العطاء والإحسان على طول الطريق للناس، بأكثر مما فعله أبو جعفر المنصور، مما أثار غضب الأخير عليه، عندما أدرك مدى تعاظُم نفوذ أبو مسلم الخراساني وشدة غروره، من هنا عقد العزم على التخلُّص منه في أقرب وقت.
ومع صعود أبي جعفر المنصور إلى عرش الخلافة بعد وفاة أبي العباس السفاح، حانت الفرصة للمنصور للتخلص من أبي مسلم الخراساني، الذي أصبح نفوذه يُشكِّل خطرًا على الخلافة، وخاصة مع تحوُّله إلى رمز للمكون الفارسي في الدولة العباسية.
وجاءت الفرصة عندما طالب المنصور أبا مسلم بتسديد حق الدولة في الغنائم، بعد نجاح أبي مسلم في قمع ثورة على المنصور، ويشير البعض إلى قيام المنصور بإرسال مراقب من طرفه للنظر في الغنائم، كان يقصد في حقيقة الأمر “أن يؤكد سلطته كأمير للمؤمنين على أبي مسلم الخراساني، حتى في لحظة حقَّق فيها هذا الأخير نصرًا كبيرًا باسمه بالذات، وأدرك أبو مسلم مغزى هذا التدبير كل الإدراك، وأعرب عن اعتراضه”.
من هنا عاد أبو مسلم إلى خراسان قاعدته الأساسية، لكن المنصور استخدم كل وسيلة لإقناع أبي مسلم للخروج من خراسان والمجيء إلى العراق لمقابلته، وبالفعل نجح في ذلك، وهنا أصدر المنصور قراره بإعدام أبي مسلم؛ لأنه أصبح يشكِّل خطرًا على الدولة العباسية وعلى الخليفة نفسه.
والأمر المثير هو تحوُّل أبي مسلم إلى رمز من رموز القومية الفارسية المتطرفة، وربما يظهر ذلك جليًّا من خلال تتبُّعِنا لنشأة فرقة الراوندية في زمن الدولة العباسية، ويصنِّف معظم المؤرخين المسلمين هذه الفِرقة ضمن “الفِرَق الضالة”، وهم يُنسَبون إلى مكان بالقرب من أصفهان، وتؤمن هذه الفِرقة الفارسية بتناسخ الأرواح، ويَدَّعي هؤلاء أن روح الإله قد حلَّت في جسد أبي مسلم الخراساني، وأن الأخير هو “صاحب دولة بني العباس”.
وفي الفكر الفارسي الحديث عاد أبو مسلم الخراساني ليصبح رمزًا للتيار القومي المتطرف؛ إذ يضعه بعض أدباء ومفكري هذا التيار في مكانة علية رفيعة، حتى إنهم يضعونه في مرتبة أعلى من كل خلفاء بني أمية، بل وأيضًا أعلى من كل خلفاء بني العباس، وشبَّهه بعض أدباء إيران بالإسكندر الأكبر، وقالوا: إنه كما يوجد لدى اليونان الإسكندر الأكبر، يوجد أبا مسلم الخراساني لدى الفرس، بل وتساءل بعض هؤلاء الأدباء: لماذا لم يجلس أبو مسلم نفسه على كرسي الخلافة؟ ورأوا أن ذلك يعود إلى فكر وعقيدة ذلك الزمان؛ أن “الخلافة في قريش”، بينما كان الأجدر أن يكون الخليفة هو أبو مسلم ذاته.
هكذا كان أبو مسلم شخصًا مثيرًا للجدل في حياته ومماته، وهكذا أيضًا تحوَّل إلى رمز للتيار الفارسي المتطرف.
صنعوا منه رمزًا للقومية الفارسية المتطرفة ضد العرب.
- أحمد أمين، هارون الرشيد (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2017).
- حسين المصري، صلات بين العرب والفرس والترك، دراسة تاريخية أدبية (القاهرة: الدار الثقافية للنشر، 2001).
- محمد الخضري، محاضرات في تاريخ الأمم الإسلامية.. الدولة العباسية (بيروت: دار القلم، 1986).
- محمد شعبان، الدولة العباسية (بيروت: الأهلية، 1981).
- محمد عنان، تاريخ الجمعيات السرية والحركات الهدامة في المشرق (القاهرة: مؤسسة المختار، 1991).
خلال الاختراق الفارسي
سعوا وراء حلمهم القومي بنهاية العرب وهدم الكعبة المشرفة
لم ينطفئ حلم الفرس المتطرفين منذ سقوط دولتهم الساسانية، وبقيت نار الحقد تتوالد في صدروهم جيلًا بعد آخر، ولم يكن من الممكن استئصال تلك النار التي استمدوها من عبادتهم للنار من نفوسهم، بل بقيت تشتعل حتى يومنا الحالي، وكلما وجدت متنفسًا او ارتخاءً من الدولة العربية أو الإسلامية المركزية خرجت؛ إما على شكل فتنة، أو اختراق لبِنية الدولة، وهو ما اتَّضح جليًّا من اختطاف للدولة العباسية، والصعود نحو القيادة، والاستيلاء على القرار والسلطة فيها.
يقول الكاتب خليل مردم في مؤلَّفه “ابن المقفع.. أئمة الأدب (الجزء الثاني)”، في روايته عن الاختراق الفارسي للدولة الإسلامية وتطرفهم لدرجة تخطيطهم لهدم الإسلام، قائلًا: “لقد كان مروان بن محمد أحد الخلفاء الأمويين الذين حذَّروا قومهم من الدعوة العباسية المستنصِرة بالعجم”؛ إذ كتب عنه كاتبه عبد الحميد بن يحيى رسالة للعرب، مليئة بالعِبَر والحكمة والبصيرة حريٌّ بنا أن نرجع إليها كلما نسينا خطر الفرس، حين فاض العجم من خراسان بشعار السواد قائمين بالدولة العباسية، قال فيها: “فلا تُمكِّنوا ناصية الدولة العربية من يد الفئة العجمية، واثبُتوا ريثما تنجلي هذه الغمرة ونَصحُو من هذه السَّكرة، فسينضب السيل، وتُمْحَى آية الليل، والله مع الصابرين، والعاقبة للمتقين”.
ولكن الأمر كان قد قُضِيَ، وضَعُفت دولة بني أمية وانتهت، وقامت دولة بني العباس، ولم ينسَ أبو جعفر المنصور صنيعة الفُرْس، فأقصى في بداية الأمر العرب عن أعمال الدولة، واستوزَرَ من الفُرْس واستعملهم، وجعل منهم القضاة، حتى إن وصايا انتشرت بعد سقوط الدولة الأموية، وبُنِيَت عليها سياسة الدعوة العباسية: “إن قَدَرت ألا تُبْقِي بخراسان مَنْ يتكلم بالعربية فافعل”.
على أن أبا جعفر كان أحزم من أن يدع غُلاة الفرس يُعِيدون الدولة الفارسية كسروية كما كانت قبل الفتح العربي، فمَكَرَ بهم ومكروا به حتى قتل أبا مسلم، راميًا من وراء ذلك أن يضع حدًّا لأحلامهم، وله من خطبة بالمدائن بعد قتل أبي مسلم: “إن مَنْ نازعنا عُروة هذا القميص أجزَزْناه خَبِيءَ هذا الغِمد، وإن أبا مسلم بايَعَنا، وبايَعَ الناس لنا على أن مَنْ نكث بنا فقد أباح دمه، ثُمَّ نكث بنا، فحكمنا عليه حُكمَه على غيره، ولم تمنعنا رعاية الحق له من إقامة الحق عليه”.
ولكن هذا الدواء لم يكن حاسمًا، فخرج في خراسان رجل مجوسي اسمه سنباذ، كان من أصحاب أبي مسلم وتابعيه، فأظهر غضبًا لقتل أبي مسلم، وأعلن أنه يريد أن يمضي إلى الحجاز ويهدم الكعبة، وتبعه كثيرٌ من المجوس والمزدكية والرافضة والمُشبِّهة، ولكن المنصور أبادهم أيضًا.
لم يكن التخلص من “الخراساني” سهلًا كما يعتقد الجميع، فقد كانت حركته انقلابية على الحكم العربي، معتقدًا أن العباسيين مجرد وسيلة، وعندما همَّ المنصور العباسي أن يكون خليفة فعلًا سخر منه أبو مسلم، وشقَّ عليه عصا الطاعة، وحاول أن يستقل بخراسان لولا أن المنصور استدرجه بحنكته ودهائه، وفرَّق عنه معظم أتباعه وأنصاره، ثم قتله عام 137هـ.
أثر مقتل أبي مسلم الخراساني
لم يمر مقتل الخراساني هكذا على الفرس، ففي عام 138هـ خرج سنباذ يطالب بدم أبي مسلم، وقد استطاع أن يجمع تحت لوائه جيشًا من الفرس تغلب بهم على قوس وأصبهان، فبعث إليه أبو جعفر المنصور جيشًا هزمه بين همذان والري.
وفي عام 141هـ ظهرت جماعة أخرى من الخراسانيين من جماعة أبي مسلم في قرية راوندا قرب أصفهان، وعُرِفوا “بالراوندية”، وكانوا يقولون بتناسخ الأرواح، ونادوا، وأرادوا قتل المنصور ثأرًا لزعيمهم أبي مسلم، لكن المنصور قاومهم بنفسه، وانتصر عليهم، غير أنهم تمكَّنوا من قتل عثمان بن نهيك قاتل أبي مسلم.
وفي عام 161هـ ظهر رجل فارسي أُطلق عليه اسم المقنع، وادَّعى أن الله سبحانه وتعالى قد حلَّ بآدم عليه السلام، ثم في نوح، ثم في أبي مسلم الخراساني، ثم حلَّ فيه بعد أبي مسلم، واجتمع عليه خَلْقٌ كثير تغلَّب بهم على بلاد ما وراء النهر، واحتمى بقلعة «كش»، فأرسل إليه المهدي جيشًا بقيادة سعيد الجرشي، فحاصَرَه وهزمه، وقتل كثيرًا من أصحابه، فلما أحَسَّ بالهلكة شرب سمًّا وسقاه نساءه وأهله، فمات وماتوا جميعًا، ودخل المسلمون قلعته واحتزُّوا رأسه وأرسلوه إلى المهدي عام 163هـ.
سنباذ والمهدي ومزدك .. ثلاث خرافات في وجدان الفرس
لم يكن مقتل أبي مسلم الخرساني إلا جزءًا من مسيرة الفرس الطويلة مع الأساطير والخرافات، فها هم يجمعون أبا مسلم مع المهدي مع نبيهم القديم مزدك في قلعة واحدة مُدَّعِين أنهم لم يموتوا، وأنهم سيعودون يومًا لإقامة حكم الفرس والثأر من العرب.
خرج سنباذ متمرِّدًا بعد قتل أبي مسلم الخراساني وطلبًا لثأره؛ إذ كان أحد قواد جيش أبي مسلم الخراساني ومن المقرَّبين له، بدأت حركته المغالية في نيسابور في فارس، والتَفَّ حوله أتباعٌ كُثُر، وكان أخطر الشعارات التي رفعها هي نهاية الدولة العربية الإسلامية، وزعم أن أبا مسلم لم يُقتَل، لكنه لما هَمَّ المنصور بقتله دعا اسم ربه الأعلى عز وجل، فصار حمامة بيضاء، وطار من بين يديه، إنه الآن في حصن من نحاس والمهدي ومزدك معه، وسيظهرون ثلاثتهم يتقدمهم أبو مسلم ومزدك.
رفعوا شعارات من الخرافة والأساطير لتعزيز المكانة الفارسية في عقائدهم المُحرَّفة.
لقد كان استخدام المهدي استخدامًا سياسيًّا؛ للاستفادة من العوام والغوغاء، فقد التفَّ حول سنباذ من المؤمنين بالمهدي والخرمية الكثير منهم، حتى وصل عدد أتباعه إلى أكثر من مئة ألف شخص بين خَيَّال وراجِل، وكان كلما اختلى بالمجوس يقول لهم: لقد آذَنت دولة العرب بالأفول، هذا ما قرأته في أحد كتب الساسانيين، لن أعود إذا لم أدمر الكعبة التي اتخذوها بدل الشمس قِبلة لهم، أما نحن فسنجعل الشمس قِبلة لنا مثلما كانت الحال عليه قديمًا.
لقد كانت حركة فارسية عنصرية ضد الإسلام وضد مظاهره ورموزه، وهَدْمُ الكعبة كما خطَّط جزء من تلك النظرة، فضلًا عن الأسماء والألقاب التي اتخذها سنباذ بعد أن أعلن ثورته أي “فيروز إصبهبذ”، و”فيروز” من الأسماء التي سبق أن أُطلِقَت على العديد من الرجال البارزين في تاريخ الإمبراطورية الفارسية، أما إصبهبذ فهو اللقب الذي كان يُمنَح لحكام بعض المناطق في الإمبراطورية الفارسية، وانتحال سنباذ هذا الاسم يعني انسلاخه من التبعية للدولة العربية، وتَطلُّعَه إلى إحياء الدولة الفارسية القومية ضد القومية العربية.
اختراق الفرس للعباسيين لم يكن سياسيًّا فقط
لم يكن الانقلاب العباسي انقلابًا سياسيًّا فحسب، بل نجم عنه انقلاب في الحياة الاجتماعية والفكرية، فقد تمسَّك الفرس بعاداتهم وأعيادهم المجوسية كالنوروز والمهرجان والرام والسذق، واتخذ الخلفاء العرب ألبستهم كالقَلَنْسُوة والأثواب المزركشة بالذهب، وتُرْجِمت كتب اليونان والفُرْس، وظهرت آراء في الدين والفلسفة، ورَفَعَت الشعوبية عقيرتها، ونغض الزنادقة والملاحدة رُءوسهم، وقاموا بدعوات مصدرها دين زرادشت ومزدك.
- خليل مردم، ابن المقفع.. أئمة الأدب (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2019).
- عبد الله الغريب، وجاء دور المجوس.. أبعاد الثورة الإيرانية، صحيفة أخبار اليوم المصرية، على الرابط:
https://akhbaralyom.net/articles.php?id=55278
- محمد الخضري، محاضرات في تاريخ الأمم الإسلامية.. الدولة العباسية (بيروت: دار القلم، 1986).
- محمد شعبان، الدولة العباسية (بيروت: الأهلية، 1981).
- محمد عنان، تاريخ الجمعيات السرية والحركات الهدامة في المشرق (القاهرة: مؤسسة المختار، 1991).
الراوندية:
فِرقة "عبدت" حاكمًا عربيًّا وحلمت بحكم فارسي
رغم تكالُب الغرب ومعتنِقي بعض الأديان على الإسلام والمسلمين، إلا أنهم لم يتمكَّنوا من زعزعة الرابطة الدينية المقدسة للمسلمين مع رسالة خاتم الأنبياء والمرسلين، ورغم أن ملايين المسلمين يعيشون في مجتمعات مسيحية وأخرى لادينية، إلا أن ذلك لم يُؤثر على الشخصية الرئيسة للمسلم، بل ساهم في خلق رِدّة فِعل عكسية دفعت المسلمين إلى العضِّ على دينهم بالنواجذ، وتوجيه الأبناء للسير على النهج السليم والعقيدة النقية الصحيحة.
من هذا المنطلَق يمكن الجزم بأن الضربات التي هزَّت المجتمعات المسلمة كانت ذاتية وداخلية، من خلال ادِّعاء مجموعة من التنظيمات انتماءها لزُمرة المسلمين، في حين أنها كانت الخنجر الذي يذبح الأمة، والسيف الذي يقطع وحدة الكلمة، والسرطان الذي انتشر في البلاد، وكان سببًا في نشر الفتنة والأزمة.
من الخوارج إلى الحشاشين، ومن القرامطة إلى الإخوان، ومن القاعدة إلى الدواعش، كانت هاته التنظيمات الباطنية نتاجًا مُحرِّفًا للإسلام من الداخل، وحطبها عناصر من بني جلدتنا نشؤوا على هامش الدولة، وليس تحت سقفها، واستفادوا من خيرات البلاد، ثم كفَّروا مَن حَكمُوا الأرض ببيعة العِباد، ليُشَكِّلوا بحق تلك الطُّغمة الفاسدة التي عاشت بيننا ولم تتعلَّم شيئًا إلا أن تعيش على أنقاضنا، وتتلذَّذ باستباحة دمائنا وأموالنا وأبنائنا.
في هذا السياق نُعرِّج على فِرقة تبنَّت منطق الفُرقة، وتنظيم تبنَّى منطق اللا تنظيم، واللا ولاء واللا انتماء، إنها فِرقة الراوندية؛ نسبةً إلى “قوم من أهل خراسان كانوا على رأي أبي مسلم الخراساني، صاحب الدعوة العباسية.. اعتمدت الراوندية عقيدةَ الحلول، وتناسُخ الأرواح لإباحة المحرَّمات لأتباعها، ولإسقاط الفروض عنهم، ودعت إلى تأليه أبي جعفر المنصور..”.
ويرى بعض المؤرخين بأن الراوندية “هم شيعة ولد العباس بن عبد المطلب، من أهل خراسان وغيرهم”، وذكروا “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قُبض، وأن أحق الناس بالإمامة بعده العباس بن عبد المطلب؛ لأنه عمُّه ووارثه وعصبيته.. وأن الناس اغتصبوه حقَّه وظلموه أمرَه”.
ورغم غموض البنية العقدية للراوندية إلا أن هناك إجماعًا على رغبة أتباعها في انتزاع الملك من العرب، وإعادته للعِرق الفارسي، عبر اختلاق مجموعة من التقاطعات التي تصب في خانة إحياء المعتقدات الفارسية المرتبطة بتأليه الطبيعة والبشر والحلول، وغيرها من المعتقدات الشاذة التي كان يؤمن بها الفُرس، وجعلوها جزءًا من بنية المجتمع والحكم على السواء.
ويمكن إجمال معتقد الراوندية في كونها فِرقة تأثَّرت بـ”مذاهب الحلولية ومذاهب التناسخ، ومذاهب اليهود والنصارى؛ إذ اليهود شبَّهوا الخالق بالخَلْق، والنصارى شبَّهَت الخَلْق بالخالق، فسَرَت هذه الشبهات في أذهان زعماء تلك الفِرَق حتى حكمت بأحكام الإلهية في حق بعض الأئمة… وظهرت في دوائر فِرَق الراوندية نزعات الإلحاد والإباحية، والتحلُّل من النواميس الأخلاقية، وهي نزعة ربطها مؤرِّخو الفِرَق بالمذاهب المجوسية كالمزدكية والزرادشتية”.
التنظيمات والفِرَق الفارسية جميعها كانت تسعى لانتزاع السلطة من العرب.
ولعل ما يثير الغموض في تناول هذه الفِرقة هو علاقتها بأبي جعفر المنصور، وكيف رفعوه إلى درجة الألوهية، ثم انقلبوا عليه واستباحوا دمه، لقد اعتقدت الراوندية بحلول الذات الإلهية في أبي جعفر المنصور، فعبَدوه، “وصعدوا إلى الخضراء، فألقَوا بأنفسهم كأنهم يطيرون، وخرج جماعتهم على الناس بالسلاح، فأقبَلوا يقولون وهم يقاتلون: أنت أنت.. فكانوا يعتقدون أن ربهم الذي يطعمهم ويسقيهم هو أبو جعفر المنصور”.
ويمكن القول بأن الغرض من تفكيك مثل هاته الفِرَق ليس هو اجترار المعطيات التاريخية التي توجد على قارعة الكتب والمراجع، وإنما الفهم والتحليل، واستدراك الدروس والعبر، وإسقاط التجربة على واقعنا الاجتماعي والسياسي بهدف تحصين المجتمع ضد هاتِه الأفكار أولًا، ثم تحصين الوطن من خطورة الاختراق التي قد تُشكِّلها مثل هاته التنظيمات الخبيثة.
إننا نعتقد بأن تأليه الراوندية لشخص أبي جعفر المنصور كان الغرض منه بناء تحالف مرحلي مع رأس السلطة العباسية، في محاولة لكسب تأييد ورضا رأس هرم الدولة قبل التحكم في مفاصلها، وتوجيهها لما يخدم مصالح التنظيم، وهنا نجد تنظيمًا مثل الإخوان المسلمين لجأ إلى نفس التكتيك في تدبير تدافعه السياسي مع حزب الوفد المصري بزعامة مصطفى النحاس باشا من جهة، والقصر من جهة أخرى، في هذا السياق لم يجد الإخوان حرجًا في رفع شعار “الله مع الملك”، في مواجهة شعار جماهير الوفد “الشعب مع النحاس”، وهو التكتيك الذي ساهم في تقريب الإخوان من القصر قبل أن يعملوا على محاولة الانقلاب على الملك واغتيال رموز الدولة، وعلى رأسهم أحمد ماهر باشا والخازندار والنقراشي.
إجمالًا يمكن القول بأن الراوندية، وباقي الفِرَق الباطنية، قاموا باستغلال المعطى الديني من أجل اختراق وضرب الدين الإسلامي من الداخل، ثم محاولة نسج تحالفات مع رأس السلطة قبل التخطيط للانقلاب عليها. وهنا يجب الانتباه إلى أن جميع هاته التنظيمات (من الراوندية إلى الإخوان) تجد هواها فارسي أو تركي رغم أنها تنشط في بيئة عربية خالصة…هذا الربط هو الذي يحتاج إلى مزيد من التأصيل.
- السيد عبد العزيز سالم، العصر العباسي الأول (الإسكندرية: مؤسسة شباب الجامعة، 1993م).
- علي المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر (بيروت: المكتبة العصرية، 2005م).
- عماش المحمدي، “الراوندية.. فروعها وأهدافها”، مجلة كلية العلوم الإسلامية، العدد السادس عشر، جامعة الموصل (2018م).
- محمد الشهرستاني، الملل والنحل، ط3 (بيروت: دار المعرفة، 1993م).