التفريس بالإرهاب
قامت إيران بعملية "محو ديموغرافي" للأحواز منذ احتلالها (1925)
إن دراسة تاريخ السياسات الاستعمارية في العالم تقطع بأن “الاستعمار” أخذ أشكالاً متعددة، وتطورت أساليب الإخضاع من استيلاء مجرد للأرض واستعباد البشر إلى محاولات امتلاك العقول والأفئدة، من خلال مجموعة من التدابير التي تروم فصل الشعوب المستعمَرة عن هويتها الحضارية وتماسكهم العرقي، ومن ثم تحويلهم إلى امتداد بشري لشعوب الدول المستعمِرة.
إذا كان الاستعمار الكلاسيكي قد اجتهد في تنزيل تكتيكات التحكم والضبط والسيطرة، فإن الفرس قد تطرفوا في أشكال الاستعمار من خلال لجوئهم إلى استراتيجية “المحو الديموغرافي” في حق المكون العربي الأحوازي، وهي الاستراتيجية التي ترتكز على مُرْتَكَزَين أساسيين: التهجير والتفريس. وحيث إن الفرس في حاجة إلى سواعد العرب الأحواز، فقد قبلوا منهم أجسادهم ورفضوا عقولهم وقلوبهم وألسنتهم، ومن ثم كان التفريس هو التكتيك في عملية “المحو الديموغرافي” أو “القطع الحضاري”.
إنَّ نظرةً على تاريخ الأحواز لَتَكْشِفُ بأن الارتباط باللغة العربية كان ارتباطًا دينيًّا ووجدانيًّا وقوميًّا، وهو ما جسدته كثرة الكتاتيب التي كانت تقوم بتدريس الأطفال أصول اللغة العربية والفقه والنحو، بالإضافة إلى المدارس التي كانت تستفيد من دعم الدولة خاصة على عهد الشيخ خزعل الكعبي (الخزعلية والجاسبية والتربية).
إن ارتباط الأحواز السلوكي والحضاري بالعربية، قد أثار حفيظة الفرس الذين كانوا يعدون العدة لاحتلال عربستان. وهو ما دفع بأحد المسؤولين الفرس إلى التنبيه على مضامين ما كانت تكتبه الصحف الصادرة في دولة عربستان، حيث أبدى تحفظاته حول المكتبة العربية ومحتوياتها.
من هذا المنطلق، يتبين لنا أن المخططات الفارسية لم تكن لتخفى على عرب الأحواز، وهو ما دفعهم إلى التحصن بلغتهم وتثمينها وتكريسها في النفوس والقلوب قبل العقول والألباب، وهو المعطى الذي يجعلنا نقطع بأن المقاومة العربية لموجات التفريس هي تتويج لهذا التوجه العروبي قبل الاحتلال الفارسي لهذه البقعة العربية.
وإذا كان احتلال الأحواز ساهم في مواصلة الفرس مسلسلَ التنزيل المادي لاستراتيجية “المحو الديموغرافي”، حيث “مضت إيران في خطواتها لتفريس المنطقة، فأحدث ذلك ردود فعل عند أبنائها للقيام بثورات غير منظمة ومتفرقة ومتباعدة”.
لقد استيقن الفرس بأن مركز ثقل المقاومة الأحوازية هي اللغة العربية، ومن ثم اجتهدوا في قطع العلاقة بين الأحوازيين ولغتهم الأم باللجوء إلى تثبيت الفارسية محل العربية، ومن ثم قطع أداة الضبط والربط بين الأحوازيين ومحاولة ربطهم قسرًا بالأمة الفارسية. وقد انتهج الفرس مجموعةً من “تكتيكات القطع” ومنها تغيير أسماء الأماكن العربية بأخرى فارسية، كما قامت طهران بإصدار جريدة في مدينة المحمرة سميت بجريدة خوزستان تصدر بالفارسية، ويُلزم أبناء الأحواز بشرائها وقراءتها، ومن ثم منعوا تداول المطبوعات العربية بل يقدمون من يقوم بتداولها إلى المحاكم باعتبارها من المحرمات التي يعاقب عليها القانون.
إن الحقد الإيراني والاستعلاء الفارسي ومحاولة طمس هوية الأحواز العربية لَيَقطع بأن الانتصار للمذهب هو مجرد تقية سياسية وحصان طروادة؛ استعمله الفرس لمحاولة شرعنة أطماع قديمة وأحقاد دفينة، وإلا فكيف نفسر اضطهاد العرب الأحواز ومعظمهم شيعة، ولهم ارتباطات وثيقة بالحوزات العربية الشيعية خاصة في العراق؟.
ولعل التعريف بهذه القضية المنسية، تستلزم تقوية المكون العروبي وتبنيه سياسيًّا ودبلوماسيًّا وإعلاميًّا باعتباره نقطة قوة جبهة الصمود داخل عربستان. ويمكن، في هذا الصدد، الاستفادة من الهجرة الجماعية نحو مواقع الفضاء الافتراضي لخلق أكبر عدد من المواقع الموجهة للداخل الأحوازي، وتحويلها إلى منصات للتأطير والتوجيه من جهة، وربط المكونات الأحوازية بعضها ببعض من جهة أخرى، وهذا من شأنه أن يخلق زخمًا حول القضية الأحوازية التي ظُلمت كما لم تظلم قضية عربية أخرى مثلها.
إن الدم العربي واحد، والهم العربي واحد، وإذا كانت القضية الفلسطينية تُعدُّ قضية كل العرب والمسلمين، فإن القضية الأحوازية يجب أن تكون -هي الأخرى- قضية العرب والمسلمين، وتحرر الأحواز سيؤدي إلى عودة الحق إلى أهله وإلى طفرة في موازين القوى في المنطقة لمصلحة العرب من المحيط إلى الخليج.
قضية "الأحواز" قضية العرب التي لا تقل أهميةً عن أي قضية قومية أخرى.
- عامر الديلمي، الاحتلال الإيراني لإقليم الأحواز العربي وقرارات الأمم المتحدة والعقود الدولية لإنهاء وتصفية الاستعمار (عمَّان: شركة دار الأكاديميون، 2021).
- عذبي العتيبي، الاحتلال الإيراني لإمارة عربستان وحق تقرير المصير لشعبها، رسالة ماجستير في العلوم السياسية (عمَّان: جامعة الشرق الأوسط، 2013).
- علاء نورس وعماد رؤوف، التفريس اللغوي في الأحواز: دراسة وثائقية (بغداد: دار الرشيد، 1982).
- مصطفى النجار، التاريخ السياسي لإمارة عربستان العربية 1897-1925 (القاهرة: دار المعارف، 1980).