الفرس والترك:

تفاهُمات ثنائية على اقتسام الكعكة العربية

الصراع الفارسي-التركي كانت تفرضه بعض الحسابات الإقليمية، ولم تكن تؤجِّجه النعرات العِرقية أو الحسابات التاريخية، وفشل سياسات التوسع الفارسية-التركية نحو الشرق والغرب دفع القوتَين إلى اختيار المنطقة العربية والإسلامية كفضاء حيوي للتوسع والتمدد تاريخيًّا.

في هذا السياق كان المعطى العِرقي نقطة التقاء الأطماع التركية-الفارسية تجاه العرب، وهو ما جعل الطرفين يعملان على توسيع نفوذهما على حساب العرب أولًا، ثم تفادِي ما أمكن الصدام المباشر بين القوتين، وهو ما يقطع بوجود تفاهمات و”طبخات” بين الطرفَين لم تكن في معظمها علنية، وإنما كانت سرية.

لقد اعتبر الفرس والترك أن العرب هم الحلقة الأضعف في المنطقة، وبالتالي قاموا بالقفز على المُعطَى الديني انتصارًا للعقيدة العِرقية، وهنا نسجِّل بأن “تاريخ العلاقات بين هاتَين القوتين (الأتراك والفرس) والعالم العربي تاريخ طويل، فيه كثير من الصراعات والتحالفات، خصوصًا أن مظلَّة الإسلام الحنيف تغطي هاتين الدولتين والدول العربية أيضًا، وقد يتصوَّر البعض أن الدين المشترك يؤدي إلى تفاهم أكثر، وليس ذلك دقيقًا؛ لأنه يفتح الباب لاندماج أوسع وتنافس أشد”.

إن العطف على ما قاله الدبلوماسي المصري مصطفى الفقي يقطع بأن الانتماء الديني ورابطة الإسلام لم تكن رادعًا للأتراك والفرس للنظر من زاوية الأخوة في الدين تجاه العرب، لذلك تغلَّبت النعرة العِرقية على الولاء للنص الديني الذي يُحرِّم الهجوم أو الاستيلاء على أراضٍ عربية مسلمة خارج منظومة البغي، والتي تعطي الحق للمسلم للدفاع عن نفسه حتى في مواجهة مسلم آخر (إخواننا بغوا علينا).

وإذا كانت المواجهات التركية الفارسية ثابتة ومُوثَّقة، فإنها وقعت نتيجةً لاعتبارات جيوستراتيجية مرحلية، والثابت أيضًا أن كليهما لم يكن يريد القضاء على الآخر قضاءً مُبرَمًا، بل كان التنافس فقط على الأراضي العربية، وليس على أراضي كلٍّ منهم، وهنا تقطع الحوادث والشواهد بأن الأتراك والفرس استخدموا المنطقة العربية كأرض معركة وصراع نفوذ فقط، والنتيجة مئات الآلاف من الضحايا.

الرابطة الدينية مع العرب لم تكن رادعًا أمام الطموحات التوسعية الفارسية - التركية.

لقد أسهم نجاح أتاتورك في تأسيس “تركيا الحديثة” إلى دخول القوتين الإقليميتين في مرحلة من التهدئة، إن لم نقل التنسيق، ولو في الحد الأدنى، وهنا نسجِّل أنه ومنذ سنة (1923) “توقف الصراع المبني على الأساس المذهبي الذي كان حُجة الحروب التاريخية بين الدولتين، بل على العكس، كان شاه إيران رضا بهلوي يعتبر “أتاتورك” مثالًا يُحتذى به في السعي نحو العلمانية والعلاقة بالغرب، وتحديثه “لإيران الصفوية” الغارقة في أوهامها المذهبية”.

إن دراسة التعبيرات السلوكية لكل من إيران وتركيا تقطع بأن التحالف بينهما فرضته معطيات تاريخية وأخرى جيوستراتيجية، خاصة الوضع في سوريا، والتحدي الكردي الذي ينشط في أماكن شاسعة تخضع “للإدارة” التركية والفارسية، في ظل الإشارات القوية التي أرسلتها واشنطن بضرورة قيام كيان كردي متحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية.

إن ما يميِّز السياستين التركية والإيرانية هو استمرار الخيط الناظم في محاولة تفجير الأنظمة العربية من الداخل، ثم الركوب على حالة التوحش وإدارتها، وصولًا إلى تأسيس كيانات تابعة أيديولوجيًّا لتنظيمات الإسلام السياسي، وسياسيًّا لأنقرة أو طهران.

ولعل التحليل الإستراتيجي للبيئة الحاضنة للتدافع الفارسي-التركي من جهة والدول العربية من جهة أخرى يجعلنا أمام مقاربتَين مختلفتَين، وتوجدان على طرفَي النقيض، فمن جهة هناك الطموحات الفارسية-التركية التي لا زالت تعاني من ترسُّبات عرقية انعكست على بنية الحكم، وبالتالي على الاختيارات السياسية لهاتين القوتين، وهو ما جعلها حبيسة أطماعها التوسعية الناعمة والخشنة، وبين مقاربة عربية اختمرت لديها مفاهيم الدولة-الوطنية، وتشبَّعَت بقِيَم السيادة، وبالتالي تبحث على فضاء إقليمي مستقر يساعد على تحقيق رؤيتها الإستراتيجية على المدى المتوسط والبعيد.

إن التاريخ، قديمه وحديثه، يقطع بأن العرب لم يكونوا يومًا أداة لتقسيم دول الجوار، سواء أكانوا فُرسًا أم أتراكًا، بينما الفرس والأتراك، باختلاف الأدوار والحِقَب، غرقوا في قلب مشاريع التقسيم وإضعاف الدول العربية، معتمدين في ذلك على بعض التنظيمات التي تتماهى أيديولوجيًّا مع أنقرة وطهران، والتي لها أطماع وأحلام “تمكينية”، ولو “تحت الوصاية” التركية أو الفارسية، ولذلك نرى بأن ضمانات الأمن القومي لدول الخليج العربي تنطلِق من تنقية البيئة الداخلية من الامتدادات التركية والإيرانية، عبر تحيِيد التنظيمات الفوق ترابية، التي لا زالت تكفر بفكرة الحدود والأوطان.

إن التغيرات الجيوستراتيجية التي تعيشها المنطقة، قد تكون لها انعكاسات إيجابية إذا ما اقتنعت إيران وتركيا بالتصور العربي الذي يرى في “حسن النية” و”التعاون الوثيق” و”القطع مع عصبيات الجاهلية” مداخل أساسية لتأسيس بيئة إستراتيجية جديدة.. بيئة هادئة، مستقرة ومتعاونة.

  1. مصطفى الفقي: “التنافس الصامت بين إيران وتركيا على العالم العربي”، مقالة نُشرت على موقع “إندبندنت” بالعربي على الرابط: https://www.independentarabia.com/node/178326

 

  1. حميدة بالسعد، “المنطقة العربية بين مطرقة الشمس الإيرانية والقمر التركي”، مقالة نُشرت على موقع العرب 21 على الرابط: https://arabi21.com/story/900077/