الفرس والترك…. التنمر على العرب

يعتبر الفرس والترك من شعوب الجوار للعرب عبر التاريخ، ولطالما تركت الثقافة العربية بصماتها الحضارية على هذه الشعوب، لا سيما بعد الفتح العربي لبلاد فارس، وتخلِّي الترك عن وثنيتهم، ودخولهم إلى عالم الإسلام، ويتجلى ذلك واضحًا في كتابة اللغة الفارسية بالأحرف العربية؛ لأنها الحروف التي كُتب بها القرآن الكريم، وأيضًا لأن العربية أصبحت بلا جدال هي لغة الحضارة الإسلامية، كما يتجلَّى ذلك في كتابة اللغة التركية بالأحرف العربية للأسباب السابق الإشارة إليها، وكما وصف أحد المستشرقين: “أصبحت العربية هي لغة العلم في العالم كله، وعندها تحدَّث العلم بالعربية”، وعلى مستوى الأدب كان أي أديب فارسي أو تركي عندما يكتب بلغته يحاول إدخال كلمات وتراكيب عربية لكي يوضح بلاغته ورُقِيَّه الأدبي.

لكن الغريب أن كلًّا من القومية الفارسية والقومية التركية “الطورانية” تتنكران لكل هذا الإرث الحضاري، ولفضل العرب والعربية على الثقافة الفارسية والتركية، ويشير البعض إلى تكوُّن عقدة نقص تجاه الحكم العربي والثقافة العربية، وصلت في الكثير من الأحيان إلى نوع من العنصرية من جانب غلاة القومية الفارسية والقومية الطورانية تجاه كل ما هو عربي.

وعلى المستوى الإيراني يظهر ذلك واضحًا، سواء في العصر الوسيط أو العصر الحديث، ولعل أشهر ملحمة شعرية فارسية في التاريخ الوسيط، وهي ملحمة “الشاهنامه” للشاعر الفردوسي، هي أسوأ نموذج في هذا الشأن؛ إذ يصف الفردوسي العرب تهكمًا وفي نبرة لا تخلو من عنصرية بأنهم “من شرب لبن النياق وأكل الضباب”! ويتحسر كيف استطاع هؤلاء العرب “الأجلاف” إسقاط عروش الأكاسرة، وزوال الإمبراطورية الفارسية، بل وكيف حكم العرب -سكان الصحراء- بلاد فارس الزاهرة.

ويزخر الأدب الفارسي الحديث بالكثير من الصفحات الملطخة بالعنصرية تجاه العرب؛ حيث تم وَصْف العرب بأبشع الصفات وبصورة نمطية، لا تخلو من حقد دفين جراء الفترة العربية لحكم فارس؛ إذ وصف البعض العرب بأنهم ” مَوْبُوءُون، قذرون، بشعون، أغبياء، وجلودهم سوداء”، بل وتجرأ أحد أشهر شعراء إيران في القرن العشرين وهو مهدي إخوان ثالث وحَمَّل العرب، والثقافة العربية، مسئوليةَ تدهور الأدب الفارسي، نتيجة الفقر الثقافي للعرب! وعلى الجانب السياسي وصف أحد الساسة الإيرانيين العراق بأنها البلد الغني الذي يعيش فيه العرب الجهلة السذج، وأنه من الضروري أن يحكم الإيرانيون العراق، وكأن العراقيين “عبيد” ينتظرون حكم الأسياد الفرس.

وعلى الجانب التركي “الطوراني” نجد تقريبًا الموقف نفسه من ناحية العداء والنظرة العنصرية تجاه العرب والثقافة العربية، رغم فضل العرب على الترك في دخولهم عالم الإسلام، والتأثير الثقافي العربي على اللغة التركية حتى بعد مسألة “تتريك” اللغة التركية، وإخراج الكثير من المفردات العربية منها، وتظهر النزعة العنصرية الطورانية تجاه العرب بصورة جلية في الأقوال التي أصبحت بمثابة أمثال شعبية تجري على ألسنة الترك، ومن هذه المقولات العنصرية ما يطلقه الترك على عرب الحجاز؛ إذ يصفهم الترك بأنهم “ديلنجي عرب” أي: العرب الشحاذون، بشكل يمثل ليس فقط تنمُّرًا وعنصرية تجاه العرب فحسب، بل تجاه الحجاز مهد الإسلام والمسلمين. ويظهر ذلك واضحًا أيضًا في تعبيرهم بلفظة “عرب” عن الرقيق وعن كل حيوان أسود، مع أن العرب يشهد تاريخهم بأنهم على مر العصور “أحرار”، كما لا يجوز استرقاق العربي في الإسلام، بل تصل جريمة التنمر والعنصرية مداها في قولهم “يس عرب” أي: عربي قذر!

وتتجلى نزعة العنصرية الطورانية في النظرة إلى مصر وأهلها؛ إذ يطلق غلاة الترك على المصريين تعبير غريب وهو “كور فلا”، بمعنى الفلاحين الأجلاف! مع أن مصر هي موطن الأزهر الشريف الذي حمى الإسلام واللغة العربية طيلة العصر العثماني، وينسى هؤلاء أنه لولا كَدُّ وتعب “الفلاحين” المصريين ما عاشت إستانبول؛ إذ كانت مصر هي المصدر الأساسي للقمح والأرز والسكر لإستانبول، وكان المطبخ السلطاني نفسه في إستانبول يعجز عن تقديم الحلوى للسلطان العثماني والحاشية إذا لم يصل السكر من مصر، هذا السكر الذي كان له سمعة عالمية لجودته واستخراجه من قصب السكر، وكانت الأعشاب الطبية تُرسَل من مصر لتخدم “البيمارستانات” المستشفيات في إستانبول، هذا ما قدَّمه “كور فلا” من فلاحي مصر.

ولقد رد الفلاحون المصريون الصاع صاعين لهذا التنمر الطوراني والنزعة العنصرية؛ إذ يتندر الأدب الشعبي المصري كثيرًا من “عنطزة” الترك -أي غرور الترك- تجاه “ولاد العرب”. وتتحدث إحدى الحكايات الشعبية في سخرية حادة عن موظف تركي كبير فقد منصبه الحكومي، فلم يستطع أن يجلس في بيته، فقد اعتاد على التحكم في الناس وإصدار الأوامر، وكما تقول الحكاية “الشخط والنطر”، لذلك جاء “بزير ماء”، أي إناء كبير من الفخار لحفظ وتقديم الماء، ووضع على غطائه “كوز” أي: وعاء معدني لتقديم وشرب الماء، وتذكر الحكاية أن التركي استأجر أحد المصريين لخدمته، حيث يأمره التركي برفع “الكوز”، ثم يأمره من جديد بوضعه، في دلالة على نهم التركي وتعطشه لمجرد إصدار الأوامر، حتى لو كانت هذه الأوامر تافهة في حد ذاتها.

للأسف الشديد، لم تحترم القومية الفارسية المتطرفة، ولا القومية التركية الطورانية حُسْن الجوار مع العرب، بل وأنكرت فضل العرب على الفرس والترك وعالم الإسلام بأكمله.