نار الفرس.. من المعابد إلى صدور البرامكة!!
لعل أعظمَ درس يمكن استخلاصه من اختراق الفرس لمنظومة الدولة العباسية، هو أن “الحقد على العرب مدفون في أحشاء العجم الفرس” ما بقي العرب والعجم.
علاقة حاول الإسلام تمهيدها وتطبيعها بين أُمَّتين متجاورتين -لكن الفرس بالرغم من إسلام معظمهم- إلا أن كثيرًا منهم احتفظ بكراهية متوارثة للعرب جيلاً بعد جيل-، كان طابعها الغرور والاحتقار والتعالي على “العرب البدو” الذين نقضوا إمبراطوريتهم الباطلة وحولوها هباء منثورا.
تلك الأحقاد والكراهية وإن توارت بعض الوقت، إلا أنها تبدو بوضوح في المنظومة السياسية والثقافية والمالية التي صنعوها لاحقًا للإطاحة بالدولة العربية ومفاصلها.
لم تكن مساهمة الفرس في إسقاط الدولة الأموية نابعة من العدالة المنشودة كما يدعون، ولا الإيمان بقضية “الهاشميين” المعارضين للأمويين، بل وسيلة للقضاء على الدولة العربية الأموية الأولى، ومن ثم التفرغ للعباسية إما بهدمها أو باختطافها وهذا ما حدث.
لقد بنى الأمويون دولة عربية خالصة، صُلبة عَصِيَّة، كان من الصعوبة على الفرس اختراقها، لذلك تحالفوا مع أعدائها، وكان أولئك الأعداء -بالمصادفة- هم العباسيين.
لعل أعظم عيب اقترفه العباسيون إثر تأسيس دولتهم، كان إحساسهم بالامتنان للفرس وخاصة البرامكة منهم، اعتقادًا منهم أنهم مَن أعانوهم على تأسيس دولتهم بتسخير خراسان ومواردها وحاضنها الاجتماعي لصالح المشروع العباسي.
لم يكونوا يدركون أن ذلك ليس إيمانًا بالقضية العباسية، ولا بحثًا عن دولة فُضْلَى، بل حقدًا أعجميًّا أسودَ، وكما كان أولئك الفرس يعبدون النار، فقد انتقلت تلك النيران من معابدهم إلى أحشائهم وصدورهم؛ حقدًا وبغضًا للعرب، ولم يطفئها شيء حتى مع تمكنهم من رقاب خلفاء بني العباس.
لقد أحكم البرامكة سيطرتهم على الدولة العباسية نيابة عن الفرس جميعاً، وكانت خطتهم تقوم على الاستيلاء والسيطرة على المال أولاً فهو عماد الحياة والسلاح الأمضى في بناء الولاءات وشراء الذمم وتمهيد الطُّرُق أمام الدولة الفارسية، ذلكم الحلم الذي لطالما تمنوه.
لقد وصل نفوذ البرامكة الواسع في مدة حكم الخليفة هارون الرشيد إلى أقصى مداه، إذ ترك لهم -بداية حكمه- شؤون الدولة وماليتها ومفاصلها الحيوية، ومع تلك الثقة العمياء لم يتوقف البرامكة عند ذلك، بل شكلوا منظومتهم الاقتصادية الخاصة الموازية لمنظومة الدولة العباسية حتى أنهم صكوا دنانير خاصة بهم، وهي إشارة خطيرة على قناعتهم بالشراكة في الحكم وقوة النفوذ، وأنهم هم الدولة، بل أعظم من الدولة.
لقد أدرك عَبَثُ البرامكة مالَ الخلافة العباسية ومواردها الهائلة، فالهدر والسفه كانا أبرز معالم الانحراف المالي الذي شهدته دولة الرشيد –على سبيل المثال-، حتى اشتكى الخليفة نفسه من كونه لا يستطيع -وهو رأس الدولة- أن يصرف شيئًا من أموالها إلا بموافقة يحيى البرمكي أو ابنه جعفر.
اعتمد البرامكة على إطفاء هدرهم وعبثهم المالي بفرض مزيد من الضرائب والرسوم وجباية الأراضي من الناس، فرضًا انتقائيًّا، دون أن يسعف الدولة ويعيد توازنها الاقتصادي، وبما يخلخل الولاء ويُنَمِّي الكراهية والغضب.
لقد اعتمد البرامكة على مال العباسيين لبناء نفوذهم الخاص ضد العباسيين أنفسهم، فنشروا دعاياتهم من خلال الشعراء والأدباء والتجار الذين سيطروا عليهم لتمجيد الثقافة الفارسية ونشرها، وتعظيم أمجادها، والحَطِّ من مكانة العرب.
لكن المال لم يتوقف على عتبات الدعاية وجيوب الشعراء، بل إن شره البرامكة تعدى الوصف؛ فليس هناك قصرٌ جميلٌ، ولا مزرعةٌ، ولا إقطاعٌ في بغداد أو خراسان إلا وكانت يدهم عليه، تصرفاتٌ باذخةٌ، وأبَّهةٌ امتلكوها بأموال بيت مال المسلمين.
لقد تحول البرامكة -بسبب سيطرتهم على مفاصل الدولة- إلى الباب الوحيد للوصول والنفوذ في قصور السلاطين، حتى أنَّ رِحَالَ أصحاب الحاجة كانت تقف على أبوابهم قبل أبواب السلاطين.
بلا شك، فلم تكن تصرفات البرامكة الفرس بريئةً، بل خطةٌ طويلة المدى، واستنزافٌ منظمٌ، وعملٌ ممنهجٌ، القصد منه إسقاط الدولة العربية العباسية، وإحلال الدولة البرمكية الفارسية مكانها.
ألم يقم يحيى البرمكي بمحاولة فصل الخلافة العباسية إلى دولتين، وهي الدولة العظمى التي قال عنها الرشيد عندما رأى سحابة تمضي فوق بغداد؛ “أمطري حيث شئتِ فسوف يأتيني خراجك “، كانت خطة البرمكي تفكيك الخلافة العباسية إلى إمارتين ضعيفتين بين الأمين والمأمون، أبناء الخليفة هارون الرشيد، بعدما أسعروا الخلاف بينهما وفرقوهما، ولولا فطنة الرشيد وتلاحقه لملكه لقضوا عليه إلى الأبد، ومع ذلك كله كان المرض الفارسي قد اخترق ونهش في جسد الخلافة، وهو ما جرى لاحقا من ثورات وانفصالات متتالية قضت على الدولة العباسية في نهاية الأمر.