تسلل الفرس في مفاصل الدولة الإسلامية

الأمويون اعتمدوا على العرب وحيَّدوهم...فكانت دعوة العباسيين السرية منفذ عبورهم

يجب قراءة نشأة الدولة العباسية في إطار الدعوة السرية التي لجأت إليها وقامت بفضلها، وكيف انتشرت سريعًا في بلاد فارس، وأصبح الفرس مكونًا رئيسًا في هذه الدعوة، رغم أنهم لم يلتحقوا بالدعوة العباسية عن قناعة بل انطلاقًا من عدائهم للدولة العربية الأموية، وقد وجدوا في العباسيين ضالَّتهم لهدم الدولة العربية التي لطالما حلموا بالقضاء عليها، وهي التي يرون أنها تسببت في زوال إمبراطوريتهم الساسانية وذوبان حضارتهم تاريخيًّا، ليتسللوا بعد ذلك إلى الدولة الجديدة الناشئة انطلاقًا من تحالفهم معها ونُصْرتهم لها.. ثم أسقطوها.

ومن هنا يجب أن نفهم، لماذا كان العنصر العربي سائدًا في بداية الدولة الأموية دون غيره، وهو الأمر الذي اتهم به الفرسُ العربَ؛ إذ كانت فترة تكوين الدولة العربية تعتمد اعتمادًا كليًّا على العنصر العربي، فالدولة حينئذ كانت في بدايات نشأتها، ولم تكن تلك الشعوب التي دخلت في الإسلام تعرف اللسان العربي، ولا طريقة الحكم وآلياته وتفاصيله القادمة من إرثٍ عربي وإسلامي عريق، فكان الإنسان العربي قادرًا على المساهمة في إدارة مفاصل الدولة ونشر الإسلام، ولم يكن بحاجة لعناصر أخرى.

اعتمدت الدولة الأموية على العرب، وقليل ممن كانوا من أصول غير عربية، وبالتأكيد؛ فإن الإسلام جاء جامعًا لا مُفَرِّقًا، عادلًا بين الأجناس، لكن العرب كانت لديهم مهام عظيمة في ذلك العصر؛ إذ لا يمكن أن تُسْنَدَ إلى غيرهم، يأتي في مقدمتها نشر الإسلام الذي عرفوه وورثوه، بينما كان غيرهم حديثي عهد بالإسلام، وفي بلاد فارس تحديدًا كان لا يزال هنالك أغلبية على دين آبائهم وأجدادهم الفرس.

العرب أحق بالرياسة في دولتهم:

يقول عبد الوهاب عزام في كتابه “الصلات بين العرب والفرس وآدابهما في الجاهلية والإسلام”: “كان العرب دعاة الدين وأصحاب الدولة، ولأنهم الذين أقاموا الملك ونشروا الدين يرون أنفسهم أجدر بالرياسة وأولى بالشرف على ما كان فيهم من الاعتداد بأنفسهم والفخر بأنسابهم منذ أيام الجاهلية، فسخط الفرس من أجل ذلك عليهم، ولكن الفرس لم يكونوا قد أفاقوا من دهشة الفتح الإسلامي، ولم يكونوا قد تمكنوا في الإسلام واللغة وامتزجوا بالعرب امتزاجًا يُمَكِّنُهُم من منافسة العرب. وما كان العرب قد ضعفوا وتغَيَّروا وتَفَرَّقُوا في الأقطار، وبقي الفرس ساخطين لعصبيتهم”.

ولهذا السبب استعان الثائرون العباسيون بالفرس على الأمويين، فكانوا عونًا للمختار بن أبي عبيد ولعبد الرحمن بن الأشعث، وكان جيش المختار من الموالي إلا قليلًا. وقد عتب العرب عليهِ إذ استعان بالعتقاء من الموالي ثم أعطاهم حظهم في الغنائم. ولما قال رسل عبد الملك لابن الأشتر: “أجئت تقاتل جيوش الشام بهؤلاء؟” أجاب: “ما هؤلاء إلا أبناء أساورة الفرس”.

وزراء العصر العباسي:

أخذ منصب الوزارة في الدولة العباسية شكلاً مغايرًا عنه في الدولة الأموية، فقد كان تعيين الوزراء أمرًا ضروريًّا، ووضعت لهم صلاحيات واسعة لم تُعهد في دولة بني أمية، ويُعَدُّ حفص بن سليمان المعروف بأبي سلمة الخلال (توفي: 132هـ/750م)، أول مَنْ لُقِّبَ بوزير في الإسلام.

وصل منصب الوزير في ظلِّ الدولة العباسية إلى مكانة مرموقة، بل صار الوزير هو المتصرف بدلاً عن الخليفة في أحوال البلاد والعباد، وهذا يتضح جليًّا في دور أسرة البرامكة اللاحق في التاريخ العباسي، حين مُنح يحيى بن خالد البرمكي السلطة المطلقة، فأصبح بيده الأمر والنهي في أمر العباد والبلاد.

أثر الفرس في الدولة العباسية:

يقول عبد الوهاب عزام أيضًا عن أثر الفرس في سياسة الدولة العباسية، وفي حاضرة الإسلام “بغداد”: “لقد كان للفرس الغلبة على العرب عند الخلفاء منذ قيام الدولة، وقد بلغ الأمر ذروته حين تنازع الأمين والمأمون، فكان المأمون في منطقة مرو  من أقصى خراسان أشبه بخليفة فارسي، وقد أعانهُ الفرس على حرب أخيه الذي كان يعتز بالعرب”. كان -بلا شك- انقلابًا فارسيًّا بغطاء الدولة العباسية، استطاع معه الفرس العنصريون اختطاف الدولة وتحويلها إلى أداة في أيديهم لتحقيق حلمهم الفارسي بالانتقام من العنصر العربي وهدم دولتهم التي لطالما حلموا بتدميرها. وُثِّق ذلك النزاع والانحياز في الشعر الفارسي، ونُظِمَت القصائد لأجله في مدح المأمون، واستمر ذلك حتى توفي المأمون، لتكون الغلبة للفرس. ثم استمروا مسيطرين على الخلفاء.

سيطر الفرس على الدولة وساروا على الثقافة الفارسية الساسانية، وأصبح الخلفاء العباسيون مُقَلِّدين للفرس في ملابسهم ومساكنهم وطعامهم وشرابهم، حتى أن الخليفة المنصور أمر أن تُلبس القلنسوة الفارسية، واتخذ هو ومن بعده الحُلَل المذهبة على الأساليب الفارسية، حتى أن الخليفة المتوكل سك صورته الدراهم يظهر فيها وهو في زيٍّ فارسي كامل.

ومن الكلمات الجامعة في هذا ما قاله المتوكل حينما أراد إصلاح السنة المالية ورَدَّ النيروز إلى مكانه من العام، فأحضر الموبذ ليستعين بهِ. قال الخليفة: “قد كثر الخوض في ذلك ولست أتعدى رسوم الفرس”، وسأله رأيه في الإصلاح.

سيادة البرامكة:

كعادة الفرس في تسللهم لمفاصل الدولة، استطاع البرامكة سيادة المشهد خلال خلافة هارون الرشيد، فكان الخليفة يَرجع إليهم في كل أمر، حتى اتَّسَع سُلْطانهم، وعلا شَأْنهم، وأصبحوا مقصد الشعراء.

والبرامكة ينتسبون إلى برمك، وهو كاهن بيت النار في مدينة بلْخ المسمى النوبهار، وهو مَعْبد للديانة الزرادشتية، وكانت هذه الديانة مملوءة بالطقوس المعقدة والسحر والأسرار، فلما انتقلوا إلى الإسلام لم تَخلُ صدورهم من آثار هذه العقيدة، ولمكانتهم وسيادتهم على السلطة العباسية، نقلوا كُتُب الفرس القديمة وعاداتهم وتقاليدهم إلى الدولة الإسلامية. لكن تسلطهم لم يتوقف على ذلك، بل وضعوا أيدِيَهم على مال الدولة كله، حتى وصل بهم الأمر أنه إذا أراد الخليفة هارون الرشيد أنْ يَتَصَرَّف في أمر رَجَعَ في ذلك إليهم، وكان أول مَنْ ظَهَرَ منهم خالد البرمكي، وعلا شأنُهُم في عَهْد الرشيد على يد يحيى بْن خالد.

ويُعَدُّ الجَدُّ خالد البرمكي أول من اتصل من أسرة البرامكة بالعباسيين، وذلك خلال الدعوة العباسية؛ إذ لعب دورًا بارزًا في هذه الدعوة والتطورات التي مرت بها حتى قامت الدولة العباسية سنة (132هـ). ونتيجة لذلك تولى خالد البرمكي ديوان الخراج والجند الأول، وكان مع السفاح بمنزلة الوزير، وخاصة بعد مقتل أبي سلمة الخلَّال، وكان يعمل عمل الوزراء، وفي عهد المنصور كان لخالد من المناصب المهمة بالدولة العباسية، فقد أُسْنِدت إليه الوزارة في بداية عهد المنصور، ثم أُسندت إليه ولاية فارس ثم الري بطبرستان ودنباوند، كما عمل مستشارًا للخليفة أبي جعفر المنصور، ومركزٌ كهذا بالغ الأهمية للبرمكي في موقعه، إذ كان يشترك في صنع القرارات وفي رسم السياسة التي كان يسير عليها المنصور.

العباسيون مكنوا الفرس؛ لأن دعوتهم قامت ونشأت بينهم وبدعمهم، فوقعوا في شَرَكِ شُعُوبِيَّتِهِم.

أما نكبة البرامكة فقد حصلت بأيديهم قبل غيرهم، فقد وصل تسلطهم واختطافهم للدولة واحتجازهم لأموال المسلمين كافة حتى كان الرشيد يطلب اليسير من المال فلا يصل إليه، فغلبوه على أمره، وشاركوه في سلطانه، ولم يكن له معهم تصرف في أمور ملكه، ووصل الأمر إلى أن عيَّن البرمكي في دار الخلافة من أولاده خمسة وعشرين، ليكونوا عيونه ويمنعوا غيرهم من الوصول إلى أمر الدولة.

  1. أحمد أمين، هارون الرشيد (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2014).
  2. أميرة بيطار، تاريخ العصر العباسي، ط4 (دمشق: جامعة دمشق، 1997).
  3. السيِّد سالم، العصر العباسي الأول (الإسكندرية: مؤسسة شباب الجامعة، 1993).
  4. عبدالوهاب عزام، الصلات بين العرب والفرس وآدابهما في الجاهلية والإسلام (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2013).
  5. محمد برانق، البرامكة في ظلال الخلفاء (القاهرة: دار المعارف، د.ت).
  6. محمد الخضري، محاضرات في تاريخ الأمم الإسلامية: الدولة العباسية، تحقيق: محمد العثماني (بيروت: دار القلم، 1986).
  7. نبيلة حسن، تاريخ الدولة العباسية (الإسكندرية: دار المعرفة الجامعية، 1993).