الإسلام السياسي والخلافة العثمانية
شهدت السنوات الأخيرة ظاهرة مهمة وخطيرة، وهي ظاهرة التبجيل والتفخيم للدولة العثمانية، أو في الحقيقة “الخلافة العثمانية”، في إطار صناعة تاريخ مقدس لهذه الحقبة، من أجل توظيف هذا التاريخ المقدس، ضمن مساعي البعض لعودة نظام الخلافة من جديد، من خلال الدعاية والترويج للفكرة بين الأجيال الشابة الجديدة، هذه الأجيال التي للأسف لم يُقدَّم لها التاريخ الحقيقي، حتى يكون لها الرؤية الصائبة لاختيار مستقبلها.
ولعب تيار الإسلام السياسي دورًا خطيرًا في الترويج لهذه الكتابات، وشهدت العقود الأخيرة عشرات الكتب التي يصدرها أيضًا أنصار هذا التيار، تحاول رسم هذا التاريخ المقدس للدولة العثمانية، وأنها “دولة إسلامية مفترًى عليها” أو أنها “آخر خلافة إسلامية”. وعمدت هذه الكتابات إلى رسم صورة مقدسة لهذه الدولة، بدايةً من تبجيل قصة سقوط القسطنطينية، وكيف استطاع العثمانيون تحويل مركز المسيحية الشرقية إلى عاصمة للخلافة الإسلامية، والتركيز على بعض الأحاديث حول تبشير الرسول عليه الصلاة والسلام بفتح القسطنطينية.
وتؤكد هذه الكتابات على انتقال الخلافة الإسلامية من آخر خليفة عباسي، بعد غزو مصر، إلى السلطان العثماني، وبالتالي تحولت القسطنطينية أو إستانبول إلى مقر كرسي الخلافة. وتتجاهل هذه الكتابات الأحاديث حول أن الخلافة في قريش، والأصل العربي للخلافة، وبالتالي كيف يجوز نقل الخلافة إلى العنصر التركي؟ بل وتقفز هذه الكتابات على مسألة الغموض في متى وكيف انتقلت الخلافة إلى العثمانيين. الأكثر من ذلك أن مثل هذه الكتابات لا تلتفت إلى حقيقة أن سلاطين بني عثمان أنفسهم لم يهتموا كثيرًا بتقديم لقب الخليفة بين ألقابهم، بل فضلوا عليه دائمًا لقب السلطان. وحتى الدراما التركية التي اهتمت مؤخرًا بالقيام بحملة دعائية وحملة ترويج للنموذج العثماني، كانت أيضًا حريصة على لقب السلطان أكثر من لقب الخلافة.
وتخصص كتابات تيار الإسلام السياسي مساحة كبيرة لضم العثمانيين للحرمين الشريفين، وتركز هذه الكتابات على أن السلطان سليمًا الأول منح نفسه لقب “حامي الحرمين الشريفين”، وأن هذا اللقب أصبح لقب السلاطين العثمانيين منذ ذلك الوقت. وتتجاهل هذه الكتابات أن الدولة العثمانية عجزت عن مواجهة البرتغاليين في البحر الأحمر، وخشيت من صعود البرتغاليين في البحر الأحمر ومهاجمتهم للحرمين الشريفين، مما سينعكس على صورة الدولة العثمانية في العالم الإسلامي، فلجأت الدولة العثمانية إلى سياسة إغلاق البحر الأحمر أمام الملاحة غير العثمانية، في محاولة للدفاع عن سيادتها على الحجاز والحرمين. وتتجاهل كتابات تيار الإسلام السياسي أثر هذه السياسة السلبي على ميناء جدة، وإضعاف حركة التجارة والحياة الاقتصادية فيه، وبالتالي في مكة والمدينة.
ولا تتحدث هذه الكتابات عن عدم احترام السلطات العثمانية لدور القوى المحلية في الحرمين الشريفين، وإصرار هذه السلطات على تقليص دور القوى المحلية من خلال توغل دور الباشا العثماني لجدة على الإدارة المحلية للحرمين الشريفين، أو حتى سياسة “فرِّق تَسُد” التي كان يتبعها والي جدة للوقيعة بين المتنفذين من القوى المحلية.
وعندما ضعفت قوة الدولة العثمانية، ودخلت في طور رجل أوروبا المريض، لجأ السلطان عبد الحميد الثاني إلى سياسة إحياء الخلافة بشكلها القديم من أجل تعظيم دور الدولة العثمانية في مواجهة الدول الأوروبية. وهنا سيظهر دور إنشاء سكة حديد الحجاز، لإظهار سيطرة الدولة العثمانية على الحرمين الشريفين، وبالتالي على قوافل الحج، حتى من المسلمين في خارج حدود الدولة العثمانية. كما كان مشروع سكة حديد الحجاز محاولة لتأكيد السيطرة العثمانية على الحرمين الشريفين، خاصةً مع تصاعد الاحتجاجات المحلية على نمط وأسلوب الإدارة العثمانية.
ولا يلتفت كُتاب تيار الإسلام السياسي إلى كتابات المفكر والإصلاحي العربي الكبير عبد الرحمن الكواكبي حول طبائع الاستبداد، في نقد الاستبداد الحميدي، أي استبداد السلطان عبد الحميد الثاني، أو كتابه أم القرى، ويقصد مكة، وكيف تجتمع العقول المستنيرة من مختلف أنحاء العالم الإسلامي بمناسبة الحج في مكة المكرمة، لتتدارس ما وصل إليه حال العالم الإسلامي من تدهور في أواخر عهد الدولة العثمانية. والأمر الجدير بالملاحظة والاهتمام هنا: أن الكواكبي جعل مقر اجتماع العالم الإسلامي هو مكة المكرمة، وليس إستانبول عاصمة الدولة العثمانية، كما جعل لغة الحوار بين الجميع هي اللغة العربية وليست اللغة التركية، لغة الدولة العثمانية.
كما لا يذكر كتاب تيار الإسلام السياسي أن الثورة العربية الكبرى ضد سيطرة الدولة العثمانية انطلقت من أرض الحرمين الشريفين أثناء الحرب العالمية الأولى.
يتجاهل كُتاب تيار الإسلام السياسي كل هذه الحقائق، ويدعون الآن إلى إحياء الخلافة العثمانية من جديد!