حاضِرةُ العباسيين وتغيير الموازيين
لقد كان للحكم العباسي دور عظيم في ازدهار بلاد الرافدين، ففي الجانب السياسي أصبحت بغداد مدينة ذات أهمية بالغة، انتقلت إليها كل مؤسسات الدولة، وقصدها العلماء والنوابغ والمثقفون والشعراء فازدهرت الثقافة وكل مناحي الحياة.
لقد حصل الفرس على مكاسب كثيرة نتيجة الإسهام في سقوط الحكم الأموي، فحينما قامت الدولة العباسية أخذت من الفرس نظام الحكم وتعريبه، وكان أول وزير للعباسيين أبا سلمة الخلال الفارسي، وصار الحكم مماثلاً لما كان عليه في عهد آل ساسان، كما اتخذ الخلفاء من الموالي الخراسانيين حُرَّاسًا لهم؛ لثقتهم العالية بإخلاصهم للعباسيين، إلى جانب ظهور الأزياء الفارسية في البلاط العباسي. وتلك ملاحظة مهمة تخص ديوان الطراز ومدى تأثره ولا غرابة في تلاقح الحضارات إذا لم تُمَس العقائد والتشريعات التي أقرها الدين الحنيف.
وكان من أشهر وزراء العهد العباسي الأول من الأسر الفارسية، مثل أسرة البرامكة التي ذاع صيتها في الآفاق، وراح تأثير رجالها يطغى على مكانة الخليفة، إلى جانب أسرة بني سهيل.
لكن إلى أي حدّ وصل أغلبهم إلى تلك الثقة والمكانة؟ يرجع التاريخ ذلك إلى السخط الفارسي على الأمويين، مما ذكرته بعض المصادر – وإن كان ذلك يحتاج إلى وقفة؛ لإزالة شوائب غطت كثيرًا من الحقائق، مفادها أن سياسة الدولة الأموية التي حرمت الموالي الفرس من جميع امتيازاتهم الماديَّة، سبَّب ذلك اضطرابات أدت إلى زوال دولتهم، واستمر التذمر الاقتصادي للموالي في كل مكان، وكان موالي خراسان أكثرهم تَذَمُّرا.
ظهر انتشار الشعوبية وهي حركة متعصبة تفضّل العجم على العرب، وأصبح الانتماء الفارسي يتصدر المشهد السياسي، وتلك الظاهرة أصبحت -فيما بعد- سببًا من أسباب سقوط كيان الدولة العباسية، إضافة إلى ظهور فرقة القرامطة الملحدة، التي عاثت في الأرض فسادًا، وتمادوا كثيرًا، وخدمهم في ذلك العنصر الفارسي، إلى أن تصارعوا مع العرب والترك على المناصب القيادية، ووصل بهم الحال أن أصدروا أوامر التولية والعزل، وتتداخل الأحداث السياسية مغلفة بالمذهبية والعرقية، مما أثار الفوضى في أرجاء الدولة واستغلال مواردها وإنهاكها اقتصاديًّا.
إن الخلاف بين العرق العربي والفارسي والتركي كان سِمَةً بارزة في الدولة العباسية، بل حتى في البيت العباسي نفسه. أما الثورات فقد كانت في أغلبها ثورات دينيّةً استهلكت قوة الجيوش العباسية وأغلبها كان من بلاد فارس كثورة سنباذ، وإسحاق الترك، والمقنع، والرواندية، والزنادقة، كما اعتمدت على أديان ومعتقدات جديدة لم يعهدها العالم الإسلامي من قبل، وتَعَمَّد من أصَّلوا لها أن تكون في أغلبها أديانًا تدمج بين الإسلام وأديان فارس القديمة كالزرادشتية، والخرمية، والمزدكية. ناهيك عن الحروب العنصرية التي زادت وانتشرت بين القبائل العربية، بدسائس ومؤامرات أنهكت جميع الأطراف رغم استمرارية الفتوحات لنشر الدين الإسلامي، واستغلال تلك الأحوال للوصول إلى تأسيس دويلات داخل الدولة العباسية، وانتشر في العصر الثاني دويلات عمَّت المشرق والمغرب، مع نشاط انتشار المذهب الشيعي بِفِرَقٍ ومِلَلٍ ونِحَلٍ عجيبة.
ومن الأخطاء التي وقعت فيها الدولة بأيدي الفرس وتسلطهم، إحياء الموروث القديم لخراسان، ذلك الحلم الذي أعاد الوجود الساساني بدثار التخفي للنيل من الإسلام والمسلمين.
إلا من رحم الله…..
لقد استغلوا صفة آل البيت وتواجدهم في ثورة العباسيين دونما أن تكون لهم أي علاقة بهم، وما يؤكد ذلك أن جعفر بن محمد (الصادق) عميد آل البيت آنذاك – والله اعلم –رفض أن يشارك في أي شأن سياسي له علاقة بتلك الثورة، خاصةً عندما علم أن الأمر كله قادم من خُراسان، مستمرا على نهجه ونهج أبيه وجده في الابتعاد والاهتمام بالعلم.
وتلك نتيجة مهمة في رفض التدخل، وما أشار إليه بأن جهة القدوم – خراسان– تستدعي الابتعاد وألا يُسْتَدْرجَ آلُ البيت إلى الخوض في تلك الشبهات.