الأسرى والعبيد في العصر العثماني

من الموضوعات التاريخية المثيرة للجدل مسألة أوضاع العبيد في العصر العثماني. وتتعدد مداخل هذه الدراسة وتتشعب إلى حد بعيد؛ إذ يطرح البعض تساؤلاً عن الجديد في هذه المسألة!! حيث ورثت الدولة العثمانية كل أوضاع العبيد التي عرفتها الدول الإسلامية السابقة، وبناءً عليه ليس هناك من جديد. لكن هذا الرأي يتجاهل أنه دائمًا هناك جديد مع حركة التاريخ، هذا فضلاً عن أننا نتحدث عن حالة العبيد في مطالع العصور الحديثة، حيث ستشهد أوربا بعد ذلك حركة إلغاء الرقيق.

وينظر البعض إلى ضريبة الدوشرمة، وهي ضريبة الرأس العينية التي كانت تُفرَض على المناطق المسيحية المفتوحة في شرق أوربا الخاضعة للدولة العثمانية، على أنها لون من ألوان العبودية؛ إذ تقدم هذه البلاد أعدادًا من أطفالها إلى السلطان، ويغادر هؤلاء موطنهم، ويجري تحويلهم إلى الإسلام، وإدخالهم إلى المدارس العسكرية التابعة للدولة العثمانية، ليصبح هؤلاء بعد ذلك هم الإنكشارية، عماد الجيش العثماني، عبيد السلطان، وولاؤهم الوحيد له.

ونحن هنا أمام نظرتين إلى أوضاع الإنكشارية: نظرة تتبنى وجهة نظر منطقة البلقان التي يرى أهلها أنهم بذلك فقدوا زهرة أطفالهم، وتم تفريغ المنطقة من شباب المستقبل، فضلاً عن حساسية مسألة التحول إلى دين آخر، ومن هنا جاءت النظرة إلى الدوشرمة والإنكشارية على أنها لون من ألوان العبودية.

بينما تنظر المصادر العثمانية إلى الأمر من جهة أخرى؛ إذ ترى أن ضريبة الرأس العينية لم تكن غريبة عن تقاليد أوربا في العصور الوسطى. وتشير تلك المصادر إلى التعليم الجيد الذي يتلقاه هؤلاء الأطفال، والمستقبل الباهر الذي ينتظرهم كجنود للسلطان، بل ترصد وصول بعضهم إلى أعلى المناصب في الدولة مثل منصب الصدر الأعظم وهو الذي يعادل رتبة رئيس الوزراء. وتبالغ بعض هذه المصادر في الأمر وترى أن نظام الدوشرمة أنتج نوعًا من اللقاء الحضاري بين الشرق والغرب، وأظهر إمكانية تعدد الثقافات.

وهناك لون آخر من العبودية تشير إليه ثريا فاروقي في دراستها عن الأسرى والعبيد في الدولة العثمانية، وهنا تلقي فاروقي الضوء على مسألة مهمة وهي أسرى الحروب وأسرى عمليات القرصنة البحرية وتحولهم إلى عبيد، وهي من الأمور التي لا نجد عنها معلومات وفيرة ، وخاصةً فيما يتعلق بحياة هؤلاء العبيد، ولذلك تُفرِد لهم عنوانًا مثيرًا هو “الأسرى بعيدًا عن الأضواء”.

وتحاول فاروقي تتبع المعلومات عن الأسرى الأوربيين الذين سقطوا في قبضة العثمانيين، وخاصةً من جرى أسرهم في البحر أو عبر هجمات القراصنة العثمانيين على القرى أو سواحل الجزر. كما ترصد أيضًا أوضاع أسرى الحروب، لا سيما حروب الدولة العثمانية مع النمسا، ومحاولات افتداء الأسرى وإلا تحولوا إلى عبيد.

وتتبع فاروقي أوضاع هؤلاء، وتبدأ بما أطلقت عليه “مآسي عملية النقل” وتقصد نقل هؤلاء لبيعهم حيث: “يتم تقييد هؤلاء بالسلاسل معًا، مع ما تحمله هذه التجربة من ألم ومذلة”.

وتشير فاروقي إلى عمل الكثير من هؤلاء الأسرى العبيد، الذين لم يستطيعوا فداء أنفسهم بالمال، عملهم على متن السفن وفي الترسانات البحرية، وكانت أصعب هذه الأعمال عملهم في التجديف في السفن الحربية.

وعندما ارتفعت أسعار الغذاء بشكل كبير في النصف الثاني من القرن السادس عشر، كان العبيد العاملون على متن السفن بصفة عامة يحصلون فقط على أقل حد ممكن من الطعام. وقد قدم أحدهم وهو ميخائيل هيبرير الذي يرجع أصله إلى منطقة بالقرب من هايدلبرج في ألمانيا وصفًا قاسيًا عن ذلك الأمر وكان قد عمل في التجديف على هذه المراكب بين عامي 1580- 1589؛ إذ يذكر أن مالك المركب- وهو أحد البكوات- طلب من قبطان السفينة أن يزيد من ضرب العبيد لكي يجعلهم يجدفون بقوة أكبر. لكن القبطان رفض ذلك، ورد عليه بأن العبيد في حاجة إلى المزيد من الطعام وليس الضرب!

وترد المصادر التركية على ذلك بأن حال الأسرى المسلمين في البلاد الأوربية آنذاك لم يكن أقل سوءًا، كما تشير إلى عمليات القرصنة التي يقوم بها فرسان مالطة في عرض البحر، وأنه في القرن السادس عشر ترصد المصادر وجود عشرات الآلاف من الأسرى المسلمين الذين يعيشون عبيدًا في العديد من المقاطعات الإيطالية لا سيما في جزيرة صقلية.

وقد استرعت حكايات الأسر والعبودية انتباه الأدب والأدباء، وتعرض بعضهم لها خاصةً في البحر المتوسط والعالم العثماني، ومن أهم هذه الروايات “شوكة في الفؤاد” للأديبة اليونانية ريا جالاناكي وهي عن قصة حياة الفريق إسماعيل باشا، وهو في الأصل طفل يوناني من جزيرة كريت تم أسره على يد العثمانيين وهو غلام، وتحول إلى الإسلام، وتم بيعه إلى مصر حيث أصبح قائدًا كبيرًا في الجيش. وتصوِر الأديبة جالاناكي مأساة الفريق إسماعيل عندما يضطر إلى العودة إلى مسقط رأسه كريت لكن هذه المرة غازيًا لقمع ثورة الجزيرة ضد الحكم العثماني. وهنا تنبع المأساة إذ كان قائد الثورة هو أخو الفريق إسماعيل، ويتواجه الأخوان ولكن كأعداء، وتجسد الرواية مأساة هذه الأسرة، بل مأساة جزيرة كريت كلها.

هكذا استرعت حكايات الأسرى والعبيد انتباه الأدب والأدباء نظرًا لما بها من إثارة ومأساة.

المراجع: 

ثريا فاروقي: الدولة العثمانية والعالم المحيط بها، ترجمة: حاتم الطحاوي، دار المدار الإسلامي.

ريا جالاناكي: شوكة في الفؤاد، حياة الفريق إسماعيل باشا، ترجمة: حمدي إبراهيم، مركز الأهرام للترجمة.