الدين كأداة للحكم:
روايات وأساطير في تكوين السلطة العثمانية والإخوان
إن دراسة معظم التنظيمات أو السلالات أو الأسر التي حكمت، أو حاولت أن تحكم، مناطق متفرقة من العالم الإسلامي خلال التاريخ الوسيط، تجعلنا نقف عند نقطة التقاء واحدة مرتبطة ب “مرحلة التأسيس” أو “نقطة الانطلاق“، والتي تعتبر محطة مفصلية في نسج منظومة الضبط والربط بين رأس التنظيم والأتباع، سواء كانوا مواطنين أم مريدين.
ويبدو أن الجماهير، كما تناولها غوستاف لوبون، تشتاق إلى زعيم خارق بكاريزما قيادية ومقدرات استثنائية، وبالتالي الخضوع له طواعية وتمكينه من ناصية مصيرها ومستقبلها والتضحية بالغالي والنفيس من أجل الزعيم وبقاءه ودوام ملكه واتساع نطاق دولته.
هذه الظاهرة القديمة واستراتيجيتها لجأ إليها الكثيرون في التاريخ المبكر والوسيط، مثل المهدي بن تومرت مؤسس الدولة الموحدية، والحسن الصباح زعيم فرقة الحشاشين النزارية وغيرهم. وحتى في القرن العشرين لعب على وترها الإخوان المسلمون من خلال رفع مؤسس التنظيم إلى مصاف القداسة، من خلال الاعتماد على خرافات نشرها مؤسس التنظيم في كتابه المرجعي “مذكرات الدعوة والداعية“.
وتلتقي الأطروحة الإخوانية مع نظيرتها العثمانية في نقطة تقديس الأب المؤسس، ولربما كانت هذه الاستراتيجية من وحي وتوجيه الإخوان، وذلك بالنظر إلى تبنيهم لنفس التكتيكات. ومن خلال مقتطف من كتاب “الدعوة والداعية” لمؤسس التنظيم الإخواني يقول حسن البنا: “رأيت…فيما يرى النائم: أنني ذهبت إلى مقبرة البلد فرأيت قبرا ضخما يهتز ويتحرك، ثم زاد اهتزازه واضطرابه حتى انشق فخرجت منه نار عالية…فصارت رجلاً هائل الطول والمنظر واجتمع الناس عليه من كل مكان فصاح فيهم بصوت واضح مسموع وقال لهم: أيها الناس: إن الله قد أباح لكم ما حرم عليكم، فافعلوا ما شئتم. فانبريت له من وسط هذا الجمع وصحت في وجهه” كذبت” والتفتُّ إلى الناس وقلت لهم: “أيها الناس هذا إبليس اللعين وقد جاء يفتنكم عن دينكم ويوسوس لكم فلا تصغوا إلى قوله ولا تستمعوا إلى كلامه” فغضب وقال: “لا بد من أن نتسابق أمام هؤلاء الناس فإن سبقتني ورجعت إليهم ولم أقبض عليك فأنت صادق”. فقبلت شرطه وعدوت أمامه بأقصى سرعتي. وأين خطوي الصغير من خطوه الجبار، وقبل أن يدركني ظهر الشيخ – رحمه الله – من طريق معترض وتلقاني في صدره واحتجزني بيساره ورفع يمناه مشيرا بها إلى هذا الشبح صائحا في وجهه: اخسأ يا لعين، فولى الأدبار واختفي، وانطلق الشيخ بعد ذلك، فعدت إلى الناس وقلت لهم: أرأيتم كيف أن هذا اللعين يضلكم عن أوامر الله. واستيقظت وكلي شوق و تقدير وترقب لحضور السيد عبد الوهاب الحصافي نجل الشيخ – رحمه الله – لأراه وأتلقى عنه الطريق ولكنه لم يحضر هذه الفترة“.
وتماهيا مع نفس الطرح، نجد المدافعين عن الأطروحة العثمانية يلوكون رواية لا تصح متنا ولا توثيقا عن أرطغرل بك، والتي تم نقلها من الحوليات العثمانية وتقول بأنه “قضى ليلة في دار أحد الزهاد المسلمين. وقبل أن يأوي إلى فراشه جاء الزاهد بكتاب ووضعه على رف…. وحمل عثمان الكتاب وأخذ يقرأه واقفا حتى الصباح، ثم نام فرأى فيما يرى النائم كأن ملاكا يبشره بأنه وذريته سيعلو قدرهم جيلا بعد جيل على مدى القرون والأدهار لقاء احترامه القرآن“.
العثمانيون الجدد أرادوا تقديس أصل المنشئ، ولو في وقت متأخر، على اعتبار أن أرطغرل هذا، وإن وجد في الأصل، فلم يكن يرى في المعطى الديني أداة للانتشار والتوسع، على اعتبار أن الدين الإسلامي لم يكن أصلا منتشرا على نطاق واسع في تلك المناطق. كما أن محمد فؤاد كوبريلي نفسه فضح الرواية بل ووجه لها رصاصة الرحمة من خلال التأكيد على أنها رواية مماثلة وردت في “كتاب من الكتب المعنونة ب “سلجوقنامه” صنف في القرن 14 أي قبل أن تصنف حوليات العثمانيين“، ويذكر الرواية التي تتطابق معها.
تأثير الكتب والأحلام على تشكيل التاريخ السياسي للإيديولوجيا.
يتبين إذا أن أسلمة أرطغرل، ثم محاولة تضخيم شخصيته إعلاميا ودراميا، هو تكتيك عثماني إخواني، يحاول تقديس رأس “الحركة” وبالتالي إضفاء حالة من الخصوصية على الحركة العثمانية والتي ظلت تفتقد للعناصر الشرعية المؤسسة للخلافة الإسلامية والمتمثلة في العروبة.
- حسن البنا، مذكرات الدعوة والداعية (القاهرة: مركز الإعلام العربي، 2011).
- عبدالعزيز الشناوي، الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها (القاهرة: مكتبة الانجلو المصرية، 1980).
- غوستاف لوبون، سيكولوجيا الجماهير (بيروت: دار الساقي، 1991).
- محمد فؤاد كوبريلي، قيام الدولة العثمانية، ترجمة: أحمد السعيد (القاهرة: دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، د.ت).