روسيا والمصالح الاستعمارية
عملت روسيا جاهدةً للحصول على امتيازات مماثلة لامتيازات فرنسا وبريطانيا، فطالبت عام 1805م بتجديد اتفاقية التحالف الدفاعي التي عقدتها عام 1799م مع الدولة العثمانية على إثر الحملة الفرنسية على مصر، ممّا زاد من الأطماع الروسية في الأقاليم العثمانية، وقد عقدت اتفاقية أخرى، وهي اتفاقية الأستانة في شهر سبتمبر من نفس السنة، التي شملت أربعة عشر بندًا، أبرزها ما يلي :
- احتكار روسيا لامتياز التنقل في البسفور والدردنيل.
- اعتراف الدولة العثمانية بأن الدفاع عن المضائق مسؤولية مشتركة لكل من الدولة العثمانية وروسيا.
- السماح للسفن الحربية الروسية وتنقلات الجنود بعبور المضائق في حالات الحروب، وفي الوقت نفسه تعهد القيصر الروسي بسلامة الجزر الأيونية – هي اليونانية – وحمايتها من كل اعتداء خارجي، وتعهدت الدولة العثمانية باتخاذ التدابير لتسهيل مرور السفن الحربية الروسية عبر المضائق من أجل تموين القوات الروسية التي احتلّت الجزر الأيونية.
- كما تم إقرار إغلاق البحر الأسود، بحيث لا يسمح بمرور السفن الحربية التابعة للدول الأخرى عبر المضائق، مع اعتبار محاولة انتهاك هذا القرار عملًا عدائيًّا، فتعاهدت الدولتان على الوقوف في وجه كل سفينة تحمل موادَّ حربية تحاول دخول البحر الأسود.
لقد نجحت روسيا في انتزاع امتيازات من الباب العالي أشد خطورةً على الدولة العثمانية من الامتيازات السابقة، فباعتراف الباب العالي بحق روسيا في الدفاع عن المضائق جعلت من نفسها محل عداء الدول الأوروبية التي سترفض بنود الاتفاقية لمجرد العلم بها، خاصة وأن الدولة تعهدت لروسيا بأن تغلق البحر الأسود في وجه سفن الدول الأخرى، مما كان من المحتمل أن يتسبب في حرب أوروبية كبرى، لذلك عمل طرفا الاتفاقية على إخفائها وجعلها سرية بينهم .
ومن النتائج المتوقعة من تلك الاتفاقية ضمان تموين روسيا من الجزر الأيونية، ويعتبر ذلك تقوية لنفوذها في المنطقة، وأنّ ضمان مرور سفنها الحربية وتنقلات الجنود أمر يشكِّل خطرًا على الدولة العثمانية نفسها، والتي لم تدركها قيادات الدولة في حينها، فغزو الأقاليم العثمانية لم يكن بعيدًا عن المنافسة الأوروبية للسيطرة على المضائق العثمانية خلال القرن التاسع عشر الميلادي.
وكان الواقع أنه لا يمكن أن تستمر سرية تلك الاتفاقية الخاصة بالسيطرة الروسية وطمعها في أن تستحوذ على المضائق، وكانت نتائجها وخيمة، ومنها إلغاء الامتيازات الروسية ومعارك المضيقين.
وكان لانتصارات نابليون العسكرية والسياسية في مصر أصداؤها في إسطنبول، وهو ما جعل النفوذ الروسي يتراجع فيها، مما اضطر السلطان العثماني لإلغاء امتيازات البحَّارة الروس، وكان السفير البريطاني في إسطنبول شارل أربثنوت حليفًا للسفير الروسي في تلك القضية، بسبب مخاوفه من تزايد النفوذ الفرنسي فتتأثر امتيازات بريطانيا في الدولة العثمانية، فطلب من حكومته إرسال قوات بحرية إلى المضيقين؛ لتقوية نفوذه أمام الباب العالي، وقام بمكاتبة حكومته بتاريخ 15 سبتمبر 1806م ليخبرها بالمكانة العالية التي أصبح يحظى بها السفير الفرنسي في فترة وجيزة منذ وصوله إلى إسطنبول، كما حذَّر بلاده إذا أغفلت الأمر ولم ترسل أساطيلها فإن فرنسا ستقوم بتعزيز الاستحكامات العسكرية في المضائق، وهو مُضِرٌّ بمصالحها وامتيازاتها.
وبالفعل عمل السفير الفرنسي في إسطنبول سبستياني على عزل أميرَي مضيقَي الأفلاق والبغدان المنحازَين لروسيا في 20 أغسطس 1806م، فاغتاظت روسيا من ذلك، وخشيت من امتداد نفوذ فرنسا في الشرق الأوروبي فتهدِّد مصالحها.
ونتيجة لتلك الأحداث عملت فرنسا على قطع علاقتها مع روسيا، واعتبرت روسيا ذلك نقضًا لحقها وامتيازاتها؛ لأن الدولة العثمانية أعطت امتيازَ بقاء الأميرَين السابقين على رأس الولايتين لمدة سبع سنوات، ابتداءً من سنة 1801م.
تلك حادثة من حوادث كُثر ظهر من خلالها صراع الدول الاستعمارية المتنافسة، وكانت العواقب وخيمة على الدولة وسُمعتها التي انهارت بأسباب، منها: تفوق مصالح الدول الأوروبية والروسية، واستغلال ما منحته لهم الدولة العثمانية من امتيازات.