الدولة الصفوية
قصة كفاح في طريق الخيانة
منذ مطلع القرن السادس عشر الميلادي بدأ طموح وتطلعات الشاه إسماعيل الصفوي الاستعمارية والتوسعية في المنطقة العربية، واتسمت تلك التطلعات بالنفَس العنصري والطائفي ضد العرب وغيرهم ممن هم على غير معتقده، ولتحقيق ذلك الطموح اتجه للبحث عن حلفاء أقوياء ليتدرع بهم ضد أعدائه، فكانت البندقية أول قوة أوروبية يرسل إليها الشاه الصفوي سفارته للتحالف معها ضد المشرق العربي، وكان ذلك سنة (1508)، لكون أسطولها من أقوى الأساطيل البحرية في البحر الأبيض المتوسط، إلا أن البندقية اعتذرت عن ذلك التحالف لانشغالهم في حرب مع بابا الفاتيكان آنذاك.
كما سعى الشاه إسماعيل الصفوي للبحث عن حليف أوروبي آخر، الذي تمثَّل بقوة استعمارية أوروبية أخرى تمثَّلت بالبرتغاليين، فجاءت الوثائق التاريخية التي تُعَدُّ مصدرًا من المصادر المهمة في كتابة التاريخ، بل وملهمة للباحثين لاستقراء التاريخ، وتوضيح الحقائق، ووضع الأمور في سياقها التاريخي الواقعي، فعلى سبيل المثال كشفت لنا الوثائق البرتغالية عن التحالف الذي تم بين إسماعيل الصفوي ونائب الملك البرتغالي في الهند ألفونسو البوكريك ضد منطقتنا العربية، وهدفت تلك الخطة على أن يعمل الشاه الصفوي على شَغل السلطان المملوكي في مصر حتى يتمكن البوكريك من التوغل في البحر الأحمر، والاستيلاء على جدة، والوصول إلى السويس في مصر، وبالفعل هدَّد الصفوي باجتياح حلب والشام، بينما البوكريك متواجد بأسطوله العسكري في البحر الأحمر سنة (1513)، مما أحدث حالة من الارتباك للسلطان المملوكي.
بعد ذلك وضع الشاه إسماعيل الصفوي خطة للإيقاع بين المماليك والعثمانيين، وعمل على خروج السلطان الغوري من مصر لإصلاح ذات البَين بينه وبين العثمانيين، وعلى هذا الأساس خرج السلطان الغوري من مصر دون استعداد حقيقي للقاء، حيث يذكر المؤرخ المصري ابن زنبل بقوله: إن كثيرين من عسكر الغوري لم يظنوا أنهم خرجوا لقتال، وإنما لعقد الصلح، ولكن تطورت الأمور حتى كانت المواجهة بين الطرفين، وحلَّت الهزيمة الكبرى بالمماليك في معركة مرج دابق سنة (1516)، فقد كانت الخطة تقضي باقتسام الشاه إسماعيل والبوكريك الخليج العربي بجُزُره، على أن يستولي الشاه إسماعيل على جانبي الخليج العربي مقابل السماح للبرتغاليين بإقامة حصون ومراكز تجارية برتغالية على جانبيه، ولكن يشاء الله أن ينهزم الشاه إسماعيل هزيمة نكراء في ذات السنة تشتَّت فيها ملكه وكيانه.
ولعل من مدى التقدير الذي حظي به الشاه من قبل القائد البرتغالي البوكيرك ومبعوثه رُوي جوميز ( Ruy Gamez) إلى الشاه اسماعيل الصفوي الذي حمَّله رسالة ذكر فيها للشاه: “إني أقدِّر احترامك للمسيحيين في بلادك، وأعرض عليك الأسطول والجند والأسلحة لاستخدامها ضد قلاع الترك، وإذا أردت أن تنقضَّ على بلاد العرب أو أن تهاجم مكة فستجدني بجانبك في البحر الأحمر أمام جدة أو في عدن أو في القطيف”، إضافة إلى بعض التعليمات لجوميز قال فيها: “الهدف الأول لرحلتك بصرف النظر عن الطريقة والكيفية التي يمكنك إنجازها هو أن تتوجه مباشرة إلى الشاه إسماعيل، وعند وصولك إليه ستقدم له التوقير والتقدير اللذَين يليقان بملك عظيم جدًّا”.
والحقيقة لقد أظهرت الوثائق البرتغالية مدى العمالة والتواطؤ الخفي للصفوي إسماعيل مع الغرب، ولا تزال إيران تسير على خُطاه حتى يومنا الحاضر، فقد أظهرت إحدى الوثائق البرتغالية أن البوكريك قد أرسل إلى ملوك أوروبا آنذاك يحثهم على تقديم خبراء للشاه إسماعيل الصفوي في صناعة المدافع، كما يدعوهم ويحثهم على التعاون مع الشاه والاعتماد عليه بصفته الحليف لهم في المنطقة. ومن صور العلاقات الودية بين الجانبين أن الشاه إسماعيل أرسل للبوكريك يهنئه على استيلاء الأخير على جزيرة هرمز المهمة في الخليج العربي سنة (1515)، ويطلب منه عقد الاتفاقيات وإقامة العلاقات والتحالف والصداقة بينهما، وقدَّم الشاه له هدية ثمينة.
وفي الوقت ذاته أرسل الشاه إسماعيل في سنة (1518) سفراء إلى مَلِكَي المجر وبولندا يدعوهما للاتحاد معه لمحاربة عدوهما المشترك، ففي رسالة الشاه إلى ملك المجر يقول له: “نحن ننتظر منكم بإصرار كامل أن تدقِّقوا في رجائنا؛ إذ يجب علينا في شهر أبريل أن نهجم من الجانبَين على عدونا المشترك”.
ظلت مثل تلك المراسلات بين الشاه إسماعيل الصفوي وملوك أوروبا، ومنهم أيضًا الإمبراطور النمساوي شارل الخامس الذي أرسل الشاه إليه برسالة مكتوبة باللاتينية سنة (1523)، يعرض فيها تنسيق العمليات المشتركة ضد العدو المشترك، وقد أظهر شارل الخامس تجاوبًا وتفاعلًا كبيرًا مع الشاه، فيذكر في ردِّه بالنص: “ولكن نظرًا لما لدينا من شوق مخصوص فقد قَبِلنا ضيافة حاملها المبعوث من طرفكم وقَبِلنا الرسالة”.
ولكن جاءت وفاة الشاه إسماعيل عام (1524) لتُبطئ من ذلك التحرك المحموم ضد الشرق العربي، ولتستأنف مع خليفته من بعده، فقد أرسل الإمبراطور شارل الخامس برسالة عن طريق مبعوثه فرير بطرس يخبره بما نصه: “الإمبراطور مصمِّم على الحرب، ويجب على الشاه إرسال مبعوثين يثق بهم لإبلاغ الإمبراطور بقراره بأسرع وقت ممكن”.
وظلت الاتصالات بين النمسا وبلاد فارس سنة (1593) عندما أرسل الإمبراطور رودولف الثاني من براغ رسالة إلى الشاه عباس لغرض استئناف التحالف بينهما، وقد استمر هذا التحالف إلى سنة (1615).
بدأ التحالف البرتغالي – الصفوي سنة (1509)، وهو التحالف الذي يطلق عليه التحالف الصفوي الهبسبوركي، أو التحالف الصفوي النمساوي، الذي بدأ منذ بداية القرن السادس عشر الميلادي، فالصفويون لم يتركوا بابًا من أبواب ملوك أوروبا الصليبية إلا وطرقوه من أجل تحقيق مطامعهم التوسعية في الشرق العربي، أملًا في استعادة إمبراطوريتهم البائدة في التاريخ، ولا زالوا على هذا الطريق سائرون ويحيكون الدسائس والمؤامرات ضد أمتنا العربية بشتى الصور والأشكال.
لم يترك الفرس بابًا من أبواب إمبراطوريات أوروبا لم يطرقوه ضد العرب والمسلمين.
- جمال زكريا قاسم، الخليج العربي.. دراسة لتاريخ الإمارات العربية في عصر التوسع الأوروبي الأول 1507-1840م (القاهرة: دار الفكر العربي، 1977).
- سميرة عبد الرزاق، “محاولات التحالف الصفوي الأوروبي ضد الدولة العثمانية 1508-1530م”، القاهرة، حوليات آداب عين شمس، ع 45، يوليو -سبتمبر (2017).
- عبد الرحمن الشيخ، “ثلاث وثائق برتغالية عن خطة للاستيلاء على العالم العربي في مطلع القرن السادس عشر”، ترجمة وتحقيق: عبدالرحمن الشيخ، الرياض، مجلة عالم المخطوطات، مكتبة الملك عبد العزيز العامة، ع 5، سبتمبر (2000).
- فالخ حنظل، العرب والبرتغال في التاريخ (أبوظبي: منشورات المجمع الثقافي، 1997).