"سفر برلك"

فخري باشا وحصار المدينة المنورة

صفحةٌ أخرى من الصفحات السوداء لحكم الاتحاديين “جماعة الاتحاد والترقي” في الولايات العربية في السنوات الأخيرة القلقة للدولة العثمانية، إنها صفحة القائد العسكري التركي “فخري باشا” حاكم المدينة المنورة أثناء فترة الحرب العالمية الأولى، وأثناء الثورة العربية ضد الحكم العثماني، فمَن هو “فخري باشا”؟
تذكر المصادر ميلاد “فخري” في مدينة روسجوك التي تقع في بلغاريا، أثناء تبعيتها للدولة العثمانية، والتحق فخري بالمدرسة الحربية وتخرَّج منها لينضم إلى الجيش العثماني، وينضم بعد ذلك إلى الاتحاديين، وأصبح بعد ذلك تحت إمرة “جمال باشا” قائد الجيش العثماني في الولايات العربية، وهنا تبدأ صفحته القاتمة في الحجاز عندما يرسله “جمال باشا” إلى المدينة المنورة ليصبح حاكمًا عليها من عام ( 1916 م) حتى عام ( 1919 م).
ونلاحظ هنا أن تعيين “فخري باشا” على المدينة المنورة كان يتماشى مع السياسة العامة للاتحاديين في عدم تولي كبار الضباط العرب في الجيش العثماني مناصب كبرى في الولايات العربية، بل يرى إبعادهم عن هذه الولايات خشية نمو الوعيّ العربي وتحالف هؤلاء مع السكان العرب. وفي الحقيقة كانت هذه السياسة سببًا في تذمر الضباط العرب، وأيضًا تذمر الأهالي العرب الذين خضعوا لحاكم تركي لا يستطيع تَفَهُّم حياتهم، خاصةً في مرحلةٍ صعبة كانت تشهد ذروة الوعي العربي.
وزاد الطين بِلةً سياسة التتريك، والمقصود بها صبغ الولايات العربية بالصبغة التركية، وفرض اللغة التركية على حساب اللغة العربية، في محاولةٍ يائسة منهم للَمِّ شعث الدولة العثمانية التي كانت في الحقيقة في أسوأ أوضاعها. ولنا أن نتخيل تأثير التتريك في بلاد الحجاز، وخاصةً في المدينة المنورة، بلد الرسول عليه الصلاة والسلام، لذلك أدى هذا الأمر إلى المزيد من النفور بين العرب والترك.
وفي الوقت نفسه اندلعت الثورة العربية بعدما تقطعت كل السبل لعودة الوئام بين العرب والترك، واستطاعت الثورة السيطرة على الحجاز ولم يعد في يد الترك إلا المدينة المنورة التي تحصن فيها “فخري باشا” وجنوده.
وهنا تبدأ صفحة قاتمة في تاريخ أهل المدينة المنورة؛ إذ لأول مرة منذ مئات السنين تتعرض المدينة المقدسة لحصارٍ طويل نتيجة إصرار “فخري باشا” على عدم الاستسلام. ويتذكر أهل المدينة المنورة حتى الآن الأيام الصعبة التي مر بها أجدادهم آنذاك؛ إذ انقطعت الصلات والطرق بين المدينة المنورة وسائر بلاد الحجاز، مما أدى إلى شُحٍ شديد في المُؤَنِ وضرورات الحياة اليومية، وأصبح خط سكك حديد الحجاز هو شريان الحياة الوحيد للمدينة المنورة طيلة فترة الحصار القاسي.
ودفع نقص المُؤَنِ، وضرورة توفر ذلك للعسكر الترك، “فخري باشا” إلى إجراء إحدى جرائم التهجير القسري؛ إذ أمر بتهجير أعداد كبيرة من السكان العرب إلى خارج المدينة المنورة، فتشتتوا في كافة أرجاء الولايات العثمانية. ويقال أيضًا: إن “فخري باشا” قد لجأ إلى سياسة التهجير القسري، لرغبته في إخلاء المدينة المنورة من معظم سكانها حتى يسهل عليه تحويلها إلى ثكنة عسكرية كبيرة، أو قلعة حصينة لرغبته في التمسك بالمدينة لأهميتها الدينية بالنسبة للعثمانيين، وخاصةً بعدما انطلقت الثورة العربية، وكاد السلطان العثماني أن يفقد بريقه الديني. كانت رغبة “فخري باشا” الادعاء بأن المدينة المنورة ما تزال عثمانية.
لكن رغبة “فخري باشا” بعدم الاستسلام والإبقاء على عثمانية المدينة المنورة جرَّت الخراب على المدينة وسكانها، ففضلاً على سياسة التهجير القسري لمعظم سكانها استولى “فخري باشا” على معظم محتويات الحجرة النبوية الشريفة وأرسلها إلى إسطنبول، بزعم المحافظة عليها. والأكثر من ذلك أن هناك شهادات معاصرة من أهالي المدينة المنورة بأن “فخري باشا” قام بنقل صناديق الذخيرة والعَتاد إلى داخل المسجد النبوي، كأنه يحاول أن يستفيد من المسجد النبوي بتحويله مخزنًا للسلاح، تحت ذريعة أن الثوار لن يجرؤوا على مهاجمة المسجد النبوي؛ نظرًا لحرمته ومكانته الدينية، وترك ذلك آثارًا سيئة في نفوس أهل الحجاز.
ويعدُّ الأدب دائمًا هو التاريخ غير الرسمي، ولسان حال الشعوب، ولا أدل على أثر تلك الفترة القاتمة لحكم “فخري باشا” للمدينة المنورة من عام ( 1916 م) وحتى عام ( 1919 م)، من التعبير عنها في الأدب السعودي المعاصر؛ إذ أصدر الأديب السعودي “مقبول العلوي” في عام ( 2019 م)، أي بعد حوالي مائة عام من هذه الأحداث، روايته “سفر برلك” وهي كلمة تركية تعني التهجير، ليستعيد فيها هذه الأيام الصعبة التي مرت على المدينة المنورة.
عودة مرة أخرى إلى “فخري باشا” وحصار المدينة المنورة؛ إذ استمر الحصار حتى بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى في عام ( 1918 م)، وحتى بعد هزيمة الدولة العثمانية، ولم يستجب “فخري باشا” لأوامر قادته الذين طلبوا منه العودة إلى إسطنبول، وكان “فخري باشا” في الحقيقة كما يقول المثل: (مَلَكي أكثر من الملك)؛ إذ رفض العودة أو حتى الاستسلام، على الرغم من تفشي وباء الأنفلونزا الأسبانية في وسط جنوده، هذا الوباء الذي كان يضرب العالم آنذاك.
وفي عام ( 1919 م) لم يجد “فخري باشا” مفرٍّا من الاستسلام؛ إذ هُزِمَت الدولة العثمانية، وتفشى الوباء بين جنوده، ونفذت المُؤَن والذخيرة لا سيما بعد انقطاع خط سكك حديد الحجاز. وتم اعتقال فخري باشا، ونقله بعد ذلك إلى مصر ومنها إلى جزيرة مالطة، وتمت معاملته كأسير حرب، إلى أن تم الإفراج عنه بعد الصلح مع تركيا، حيث عاد إليها وعمل في الخارجية التركية.
والحَقُّ أن صفحة “فخري باشا” في المدينة المنورة صفحة قاتمة في تاريخ المدينة، تُضاف إلى جرائم الاتحاديين في حق العرب، كما أن دفاع “فخري باشا” عن المدينة المنورة كان دفاعًا عن السياسة الطورانية للاتحاديين، وليس دفاعًا عن المدينة المقدسة.