سيف بن ذي يزن بعد أن أجرم في حق اليمن:

"استبدلنا أسيادًا بأسياد وسيحكمنا الفرس كما حكمنا الأحباش"

إن سرد الأحداث التاريخية ليس هدفًا أساسًا بقدر ما يُستخدم لفهمِ التاريخ؛ لأن الفهم التاريخي يبلور النظريات الاستراتيجية انطلاقًا من تحليل التجارب التاريخية، من خلال رصد المواجهات العسكرية وتحليل سيكولوجيا القادة والشعوب. ويبقى فهم التاريخ مقدمة لتوقع التعبيرات السياسية للدول ورسم استراتيجيات قادرة على الدفاع والحفاظ على مصالح الوطن والأمة في ظل بيئة استراتيجية معقدة ومركبة وغامضة.

ومن خلال استعراض العلاقة العربية الفارسية، فإن من يعتمد أو يرتكن إلى الفرس من العرب سيكتشف أنه يستنزف قواه من دون أي مردود لصالحهم، فالفرس منذ فجر التاريخ يعملون بسياسة توسعية واستعمارية تجاه الجغرافيا العربية، وهذا هو الخطأ الذي وقع فيه بعض ملوك العرب في التاريخ القديم، إذ لم يستفيدوا من معرفتهم بتاريخ الفرس القريب لهم ومجازرهم في حق العرب، خاصة في عهد سابور الأول والثاني (ذي الأكتاف).

وباستعراض تاريخ سيف بن ذي يزن (516-574م) يجب فهم التاريخ، وإعادة تشكيل مربعات الصورة، باعتبارها مقدمة لفهم البنية السلوكية العرقية والاستعلائية للفرس، التي تشكلت على مدى قرون من المواجهة الوجودية (من وجهة نظر فارسية) مع العرب.

لقد عاشت اليمن خلال القرن السادس الميلادي على وقع صراع على السلطة بين العرب بقيادة سيف بن ذي يزن والنصارى الأحباش، وزاد من التطاحن حقد سيف على الأحباش، خاصة بعد أن علم أن أبرهةأبرهة الحبشي حَبَس أمه وأخذها من يد أبيه أبي مرة ذي يزن، وهو ما لم يكن يعلمه سيف الذي تربى في بيت عدو والده وعدو قومه.

بعد سنوات، استطاع سيف بن ذي يزن أن يكتشف الحقيقة، وأن القائد الحبشي أخذ أمه من والده اغتصابًا، وعلم أن أباه من أشراف حِميَر وسادتها، لكن سيف لم يستفد من دروس التاريخ ويعتبر من قصة والده مع الفرس، حيث أخبرته والدته كيف أن ملك الحيرة انطلق بأبيه إلى كسرى، فناشده أن يعينه على أبرهةأبرهة والأحباش، فوعده ملك الفرس الوعود، ولكنه ماطله حتى مات حزينًا مقهورًا، خاصة عندما قال له كسرى “أكره أن أغامر بجيش في موامي الأثل والسدر”.

أدرك سيف بن ذي يزن أنه وقع في فخ الفرس الذين قرروا حُكم العرب بعد انتصارهم على الأحباش

قراءة المشهد السياسي العام تقطع بأن سيف بن ذي يزن لم يكن ليغفل عن غدر الفرس، ولذلك اتجه في بادئ الأمر نحو الروم بعدما قدّر أن الظروف الداخلية مواتية لقلب حكم مسروق بن الأشرم أبرهة، وحول هذه النقطة يخبرنا الطبري بأن سيفًا خرج “قاصدًا ملك الروم، وتجنب كسرى لإبطائه عن نصرة أبيه، فلم يجد عند ملك الروم ما يُحب، ووجده يحامي عن الحبشة لموافقتهم إياه على الدين، فانكفأ راجعًا إلى كسرى”.

كان هامش التحرك ضيقًا أمام سيف، فاضطر إلى المناورة واللجوء إلى الفرس لمساعدته على استرجاع ملك أجداده ليناورهم بعدها بالارتكان إلى عصبيته العربية، حتى لا يغدر به الفرس كما فعلوا بأبيه، على اعتبار أن سيف بن ذي يزن لم يكن ذلك الخب الذي قد تخفى عليه ألاعيب الفرس، إلا أن ما كان يمتلكه هؤلاء من أدوات ووسائل (بالمفهوم الاستراتيجي) يتجاوز ما كان يمتلكه بن ذي يزن.

ودون الرجوع إلى حيثيات اعتراض بن ذي يزن لموكب كسرى، وطلبه تنفيذ العهد الذي قطعه لوالده، فإن كسرى استمع إلى نصيحة مستشاره “الموبذان” الذي نصحه بإرسال المغضوب عليهم من السجناء مع بن ذي يزن “فإن أصابوا ظفراً كان له، وإن هلكوا كان قد استراح وأراح أهل مملكته منهم”. ويبدو أن قائد جند كسرى “وهرز” كان رجل حرب وميدان، لذلك تغلب على جيش الأحباش الذي تجاوز عدده المائة ألف مقاتل، حيث اختار “وهرز” استهداف مركز ثقل “العدو” وهو زعيم الأحباش “مسروق” وقتله مع بداية المعركة، ليكون ذلك إيذانًا بانتصار جيش كسرى والعرب.

لكن الفرس لم يكونوا ليتركوا اليمن بين يدي سيف بن ذي يزن، رغم إقرارهم بملكه العربي، لذلك اشترطوا مجموعة من الشروط جعلتهم حكامًا فعليين لليمن، وهو ما جعل بن ذي يزن يقول لعبدالمطلب بن هاشم “اصغ إلي أيها الشيخ…لقد طردنا الأحباش ويخيل إلي أننا استبدلنا أسياداً بأسياد، وسيحكمنا الفرس كما حكمنا الأحباش”.

إن أخبار ما قبل الإسلام يصعب التحقق من صدقيتها، إلا أن الروايات التي تحدثت عن نبوءة سيف بن ذي يزن على أن العرب لن يُعَزُّوا إلا على “يد جديدة” ستخرج من رحم بني هاشم، وهي التي ستُعز وسيعز الله بها العرب قد صدفت وصدقت…ولو بعد حين.

  1. جواد علي، المُفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ط4 (بيروت: دار الساقي، 2001).

 

  1. رئيف خوري، مع العرب…في التاريخ والأسطورة (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2019).

 

  1. محمد الطبري، تاريخ الرسل والملوك، تحقيق: محمد أبوفضل إبراهيم (القاهرة: دار المعارف، 1968).

 

  1. عبد الوهاب عزام، الصلات بين العرب والفرس وآدابهما في الجاهلية والإسلام (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2012).

 

  1. هاري يارغر، الاستراتيجية ومحترفو الأمن القومي (أبو ظبي: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 2011).

 

  1. هوما كاتوزيان، الفرس: إيران في العصور القديمة والوسطى والحديثة، ترجمة: أحمد حسن المعيني (بيروت: دار جداول، 2014).