تخادم الحركات الإسلامية والعثمنة ..

الخديعة الكبرى!!

لم تظهر العثمانية الجديدة كتفكير ومنهج في السياسة التركية الحديثة هكذا بالمصادفة، بل جاءت عبر أطوار عديدة من الاختراق والتحالف مع الحركات القومية تارةً، ومع الأحزاب ذات التوجه الديني تارة أخرى، وأخيرًا اختراق الطلاب الأتراك الذين درسوا في المعاهد الدينية العربية وتحويلهم إلى رأس جسر ونواة لتأسيس تنظيمات فرعية، وخاصة للإخوان المسلمين في تركيا.

جاء أكبر اختراق حقيقي على يدي رئيس الوزراء التركي الأسبق نجم الدين أربكان، ومنها بدأت فكرة الاندماج بين الحركات الإسلاموية وبين الطموحات العثمانية، تظهر للعيان ويتم بناء مشاريعها العابرة.

طموحات عثمانية جديدة لا تكتفي بنشر المظاهر الإسلامية في الشارع التركي كما تدعي، بل تتعداها إلى العمل الدؤوب على استعادة الإرث الجغرافي العثماني الذي تمددت إليه الدولة العثمانية ذات يوم، وخاصة على حساب العالم العربي.

الحركات الإسلامية لديها نفس الطموح الاحتلالي، ولكنها بلا إمكانات حقيقية قادرة على الفعل الانقلابي، وهي جربت التحالف مع الضباط الأحرار في مصر فانقلبوا عليها، ثم مع ضباط السودان فافترق الشركاء، وها هم اليوم يراهنون على الشراكة مع العثمانيين الجدد في تركيا.

خطط الحركات والفصائل الإسلامية دائمًا ما تصطدم بالعلاقة مع الجماهير التي ترفض الانقلاب على حياتها ودولها، ومن جرَّب الذهاب مع تلك الحركات وجد أن بلاده تدمرت وتحولت إلى دول فاشلة (سوريا، ليبيا) نموذجًا.

تقديم تركيا العثمانية في ثوب “علماني إسلاموي” هو جزء من الخديعة الكبرى التي يسوقها العثمانيون والحركات الإسلامية، فالتمدن والتطور الاقتصادي الصناعي في تركيا لم يأت بسبب العثمنة كما يروج لها الإخوان المسلمون، بل لأن الأتراك تبنوا الإدارة الاقتصادية الحديثة وطبقوا نظام الجودة، إضافة إلى إرث ومهارات يتمتع بها الشعب التركي قبل وصول الحركات الإسلامية إلى سدة الحكم.

فرضت الفصائل والتنظيمات الإسلامية على كوادرها وعلى الشارع العربي تصورًا رومانسيًّا للعثمانية غير قابل للنقاش أو الرفض، وهي التي رزح العالم العربي تحت احتلالها لأربعة قرون، وبالرغم من رحلة الآلام والمآسي التي عانى منها العرب في كل بقعة وُجِد فيها عثماني فإنه يتم إخفاؤه والترويج لسردية عثمانية جديدة مليئة بالقصص والأحداث غير الحقيقية عبر تزوير الأحداث وقلب الحقائق واتهام الأبرياء، لقد فرضت تلك التنظيمات “السردية العثمانية” على العرب وجعلتها خطًّا أحمر، من يتجرأ عليه يتم تكفيره واغتياله معنويًّا، حتى وصل الأمر إلى مساواة سلاطينهم بالخلفاء الراشدين!

الاندماج -أو ما يمكن أن يُطلق عليه التخادم- لا يمكن فصله بشكل دقيق، فبالأساس الحركات الإسلامية في تركيا هي تابعة للإخوان المسلمين الذين أسسوا فرعًا كبيرًا هناك، بل إن الجناح التركي هو أكثر التنظيمات الفرعية التي امتلكت شخصية ذكية استطاعت توظيف الحركات الإسلاموية لخدمتها وليس العكس، بل وفرض أجندتها على التنظيم الأم، فبينما تظن الأحزاب والحركات أنها اختطفت القرار التركي، وجعلت من تركيا حديقة خلفية ومنصة تستطيع الانطلاق منها والاحتماء بها، استطاع الأتراك بدهائهم، وبسذاجة الحركات، أن يحولوها إلى مجرد مقاولين من الباطن ينفذون الخطط والإستراتيجيات التركية، وهو ما نراه في فلسطين وليبيا وسوريا والصومال بشكل واضح.

لعل من المفيد دراسة الشراكة “التركية الإسلاموية” في ضوء التطورات السياسية والأمنية في العقدين الماضيين، فأهم ما في الدرس التركي هو النفَس الطويل والبرغماتية الحادة التي يعملون بها، على عكس التنظيمات والفصائل ذات الآراء والمواقف المتسرعة، فإن لم تكن معي فأنت ضدي، وهو ما جعلها مجرد أدوات صلبة تستخدم من السياسي التركي في تنظيف الطريق وتمهيده أمام طموحاته.