حملة سابور الثاني
يشهد التاريخ دائمًا على المحاولات المتكررة من حكّام فارس لفرض سيطرتهم على المنطقة العربية، لا سيما شبه الجزيرة العربية، وهنا لا بُد من الإشارة إلى أهمية الجغرافيا السياسية في هذا المجال؛ إذ تشترك الجزيرة العربية مع العراق (بلاد الرافدين) برًّا، خاصةً في منطقة جنوب العراق، والمحاولات الفارسية للتمدد غربًا إلى بلاد الرافدين معلومة. كما لم تنقطع الأطماع الفارسية في منطقة الخليج العربي، الذي يحاول حكام إيران دائمًا السيطرة عليه.
وإزاء هذا التحدي الفارسي الغاشم، كانت هناك دائمًا محاولات عربية لمواجهة التمدد الفارسي، وتأكيد الوجود العربي على الساحل الشرقي “الإيراني” للخليج العربي.
ويسجل التاريخ انتصارات مهمة للعرب في هذا الميدان، ولعل قصة أذينة ملك تدمر من الأمثلة المهمة لذلك؛ حيث استطاع أذينة الهجوم على جيش سابور الأول، وهو راجع مظفرًا من حرب إمبراطور الروم، فانهزم الجيش الفارسي. ولم يكتفِ أذينة بذلك، بل تعقب أذينة الفرس حتى أسوار المدائن. وابتهج الروم بذلك الأمر، بل أطلقوا على أذينة لقب “أغسطس”.
استطاعت القبائل العربية في بدايات حكم سابور الثاني، الذي تولى الحكم صغيرًا، أن تمد نفوذها في مناطق جنوب إيران، وتؤكد الوجود العربي هناك، وبدأت هذه القبائل تلعب أدوارًا مهمة في المنطقة، كما اضطرت الدولة الساسانية نفسها أن تحترم هذا النفوذ.
لكن سابور الثاني المعروف بكراهيته للعرب، قرر المواجهة العسكرية مع هذه التجمعات العربية، بدلاً من التعايش معها، وبدأت هذه المواجهات العنيفة في منطقة خوزستان، ولم يكتفِ سابور بانتصاره على العرب في خوزستان، وإنما عبر الخليج، وهاجم جزيرة البحرين، حيث ارتكب فيها مذبحة كبيرة، ونزل في هجر اليمامة، حيث أعمل سيفه في الناس بلا رحمة، وقتل أعدادًا كبيرة من عرب تميم وبكر، وبعد ذلك زحف سابور الثاني إلى بلاد عبد القيس، حيث تحكي المصادر التاريخية ما قام به من إبادة جماعية لأهلها، ولم ينجُ منهم إلا من فر في الصحراء. كما زحف حتى وصل إلى المدينة.
ولم يكتفِ سابور الثاني بذلك، بل عمد إلى القضاء على كل مظاهر الحياة في المنطقة، إذ لجأ إلى سياسة ردم آبار المياه، وهي سبيل الحياة الوحيد في وسط الصحراء، ليحرم من تبقى من الأهالي من الحق في الحياة.
كما زحف سابور الثاني شمالاً، وهاجم بلاد بكر وبلاد تغلب الواقعة بين مملكة الفرس وإمبراطورية الروم، وكرر سابور الثاني نفس سياسته في الإبادة الجماعية، والقضاء على مظاهر الحياة.
وبحجة تأديب القبائل العربية وإخضاعها لجبروته، ارتكب سابور الثاني جريمة التهجير القسري؛ إذ أسكن من كان من بني تغلب من البحرين “دارين” واسمها “هيج” و”الخط”، ومن كان من عبد القيس، وطوائف من بني تميم “هجر”، ومن كان من بكر بن وائل “كرمان” وهم الذين يدعون “بكر بن أبان”، ومن كان من بني حنظلة “الرميلة” من بلاد الأهواز، وحاول سابور الثاني تبرير جريمته في التهجير القسري، بأنها كانت انتقامًا من سكنى هذه القبائل لجنوب إيران.
وسجلت المصادر التاريخية العربية كل مذابح سابور الثاني وجرائمه، وأطلقت عليه “سابور ذي الأكتاف”، ويقال إنه سُمي بذلك لأنه كان يخلع أكتاف الأسرى العرب، ويقال أيضًا إنه أُطلق عليه ذلك لأنه: “خرق أكتاف الأسرى العرب ونَظَمهم في الحبال”.
ولم ينس العرب أبدًا جريمة سابور الثاني، لذلك عاون العرب جيش الروم في حربهم ضد الفرس، حتى نجحوا في هزيمة الفرس وأخذ الروم المدائن إلى حين، وستبقى في ذاكرة العرب وحشية الفرس تجاههم لذلك سيبشر القرآن بعد ذلك بانتصار الروم على الفرس، نظرًا لوحشية الفرس تجاه العرب؛ ولأن الروم أهل كتاب وديانة سماوية.