"سنباذ المجوسي وحلم هدم الكعبة"

عانى تاريخنا العربي الإسلامي من التنظيمات والحركات السرية الفارسية التي عُرفت بالشعوبية، التي أحدثت في تاريخنا الكثير والكثير من النكبات والمآسي، ورسمت صورة قاتمة في بعض فتراته الزمنية، ولا زال عالَمُنا يعاني من تَبِعاتها حتى يومنا هذا، فلقد واجهت الخلافة العباسية منذ قيامها عددًا من الحركات الشعوبية الفارسية التي سعت لإحياء دولة فارس بعد زوالها، وفي هذا الإطار يذكر المؤرخ عبد العزيز الدوري في كتابه “العصر العباسي الأول.. دراسة في التاريخ السياسي والإداري والمالي” أن ظهور حركة سنباذ المجوسي وغيرها من الحركات الفارسية آنذاك يعود إلى دعاية أتباع أبي مسلم الخراساني، حيث اعتقد البعض بإمامته، وسُموا بـ”المسلمية”، وربما اعتبروه شخصية مقدَّسة لديهم، بل وأحد خلفاء زردشت الذي انتظروا رجعته ليملأ الأرض عدلًا، ويُعِيد دولة المجوس، ويستولي على الأرض كلها، ويُزِيل مُلك العرب وغيرهم.

وزعم سنباذ أن أبا مسلم لم يُقتَل، لكنه لما هَمَّ المنصور بقتله دعا اسم ربه الأعلى عز وجل، فصار حمامة بيضاء، وطار من بين يدَيه، إنه الآن في حصن من نحاس، والمهدي ومزدك معه، وسيظهرون ثلاثتهم يتقدَّمهم أبو مسلم، ومزدك وزيره، وأن سنباذ يحمل رسالة من أبي مسلم.

ويبدو لنا أن حركة سنباذ المجوسي وثورته تحمل روحًا قومية بحتة، بعدما بشَّر أتباعه بنهاية السلطان العربي، وأعلن أنه يريد الذهاب إلى الحجاز وهدم الكعبة، هكذا أراد الفرس التحرُّر من سلطان الإسلام، فوجدوا في أبي مسلم الرجل المنتظر الذي يعيد دولة المجوس، فلما قُتل أبو مسلم بقي أثر دعايته بعده، ولكن ذلك الأثر اقتصر على بعض نواحي إيران، وعلى بعض الطبقات فقط، وهذا عامل مهم في فشل الحركات الفارسية في العصر العباسي الأول.

وتشير المصادر التاريخية إلى أن سنباذ بدأ حركته في نيسابور، ودعا الخرمية والمزدكية، فالتفَّ حوله عدد كبير منهم، كما دعا أهل طبرستان، فأجابه كثير منهم، وبخاصة أنها كانت مجوسية عهدئذ، فخرج سنباذ في عسكر كثيف من أتباعه، ومعظمهم من أهل الجبال والضياع، وبلغ عدد أتباعه أكثر من مئة ألف شخص بين خَيَّال وراجِل، فغلب على نيسابور وقومس والرَّي، فعَظُم شأنه وتفاقَم أمره، حتى تسمَّى بـ”فيروز إصبهيد”، أي “القائد المنتصر”، ومن يتمعَّن في تلك الأسماء التي تَسمَّى بها سنباذ سيجد أن سبق أنها أُطلقت على العديد من الرجال البارزين في تاريخ الإمبراطورية الفارسية، أما “أصبهبذ” فهو اللقب الذي كان يُمنَح لحكام بعض المناطق في الإمبراطورية الفارسية، وانتحال سنباذ هذا الاسم يعني انسلاخه من التبَعِيَّة للدولة العربية، وتَطلُّعه إلى إحياء أمجاد الدولة الفارسية الغابرة، وبتعبير آخر فإن هذه الظِّلال تُوحِي بأن ثورة سنباذ كانت أيضًا ثورة القومية الفارسية ضد القومية العربية، وبعدما استولى سنباذ على خزائن أبي مسلم التي خلَّفها بالري حينها اتجه إلى الحج لمقابلة الخليفة العباسي، وكان كلما اختلى بمن معه من المجوس يقول لهم: لقد آذَنَت دولة العرب بالأفول، هذا ما قرأته في أحد كتب الساسانيين، لن أعود إذا لم أُدَمِّر الكعبة التي اتخَذُوها بدل الشمس قِبلة لهم، أما نحن فسنجعل الشمس قِبلة لنا مثلما كانت الحال عليه قديمًا.

ويتبين لنا أن حركة سنباذ كانت إلى جانب مظهرها السياسي ذات طبيعة دينية؛ إذ هي في واقعها ثورة للمجوس ضد أتباع الدين الإسلامي، وإلا فما هو المغزى وراء ما كان ينويه من هدم الكعبة؟!

الواقع، وحسب ما ذكر بعض المؤرخين، أن سنباذ عاث بقواته فسادًا في إقليم الجبال، وسبى النساء ونهب الأموال، وكان يُظهِر أنه يقصد الكعبة لهَدمِها، فوجَّه إليه الخليفة المنصور جيشًا عُدَّتُه عشرة آلاف فارس بقيادة جَهوَر بن مراد العجلي، فاشتبك مع سنباذ في موقعة جرجبنان بين همذان والرَّي، وقَدَّم سنباذ السبايا النساء المسلمات على الجِمال، فلما رأين عسكر المسلمين قُمن في المحامل وصرخن “وامحمداه! ذهب الإسلام”، وهبَّت رياح شديدة فنفرت الإبل، وتراجعت إلى معسكر سنباذ، فاختلفت صفوف عسكره، فقاتلهم جهور وعسكره قتالًا شديدًا، فولوا الأدبار، ودارت عليهم الدائرة، وقُتِل منهم ستون ألفًا، وسُبي من ذراريهم أعداد كثيرة.

ويُعلِّل المؤرخ المقريزي في كتابه “المواعظ والاعتبار بذِكر الخطط والآثار” حين يقول: “إن السبب في خروج أكثر الطوائف عن ديانة الإسلام أن الفرس كانت مِن سَعة المُلك وعُلوِّ اليد على جميع الأمم، وجلالة الخطر في أنفُسها، بحيث إنهم كانوا يسمون أنفسهم الأحرار والأسياد، وكانوا يَعُدُّون سائر الناس عبيدًا لهم، فلما امتُحِنوا بزوال الدولة عنهم على أيدي العرب، وكانت الفُرس أقل الأمم خطرًا تعاظَمَهم الأمر، وتضاعَفَت لديهم المصيبة، وراموا كيد الإسلام بالمحاربة في أوقات شتى”.

والغريب أنه رغم مرور أكثر من ألف عام على تلك الطائفة الممسوخة بأفكارها المجوسية المريضة فإنه لا زال هناك من يحمل فكرة هدم الكعبة في عقله ومعتقده، فهل هم فئات من بقايا السنباذية في عصر المعاصر؟! فقط اختلفت مسمياتهم وتكويناتهم السياسية والحزبية!