عبيد برتبة سلاطين!!

كيف تحول الرقيق من خدم في القصور العثمانية إلى سلاطين في السر يحكمون ويصدرون الأوامر والفرمانات، إنها قصة الصعود عبر رحلة الآلام التي أحاطت بطبقة الرقيق داخل القصور العثمانية. 

ومثل كل الحالات الإنسانية استطاعت تلك الطبقة أن تخلق لنفسها ممرات وآليات تصعد من خلالها إلى سلالم السلطة، وأخضعت السلاطين لحكم الرقيق والإماء الضعفاء ثم التحكم بهم لاحقًا، من خلال تلبية حاجات السلاطين ورغباتهم وشهواتهم أحيانًا، أو من خلال ذكائها وطموحها وقدراتها الخاصة أحيانًا أخرى.
لم تكن العبودية داخل السلطنة العثمانية مُجرّمة أو مُحرمة أو مستهجنة بسبب قمعيتها وسمعتها السيئة، بل كانت عملًا منظمًا ومقبولًا وأضحت قانونية بسبب الفرمانات السلطانية، وليتحول ذلك السلوك لاحقا إلى جزء معتبر من الاقتصاد العثماني والمجتمعه التقليدي.

وكأن القصور السلطانية قد تحولت إلى وحوش لا تشبع ملتهمة كل الملايين من العبيد الذين يُرسلون من الأقاليم المحتلة إلى عتبات السلاطين، وعلى سبيل المثال فقط، أشارت إحصاءات عثمانية في القرنين السادس عشر والسابع عشر إلى أن واردات إسطنبول – فقط – من الرقيق من البحر الأسود قد وصل مجموعها إلى حوالي 2.5 مليون، وكان حوالي خمس السكان يتألفون من العبيد.

لكن الأخطر في كل أنواع العبودية والاسترقاق تلك التي نظمها العثمانيون كانت “العبودية الجنسية”، وقد شملت الجنسين الرجال والنساء، ونظمت لصالح السلاطين والأمراء وكبار رجالات الدولة وأصحاب النفوذ، إذ كانت العبودية الجنسية عنصرًا مهمًا في الحكم الإمبراطوري وسبيلًا إلى التكاثر الاجتماعي للنخبة.

وكان الفتيان الذكور يُستعبدون جنسيا بشكل واسع – وتورد المصادر ما يلي: في أماكن مثل الحمَّامات والمقاهي، وثَّق المؤرخون الرجالَ وهم ينغمسون في السلوك الجنسي مع رجال آخرين، علاوة على ذلك فإن الرسوم التوضيحية المرئية خلال هذه الفترة كشفت ما كان يدور، وكان العاملون في تلك الحمامات سواء (مدلكون) أو (راقصون يلبسون الملابس) أو سقاة (صُبّاب النبيذ) صغارًا بلا لحية.

ولم يكن العبيد المخصيون في السلطنة العثمانية جزءًا من النظام الذي ترسّخ على مدى قرون في السلطنة فحسب، بل تحولوا إلى جزء من النظام الحاكم، له نفوذه وأدواته واستطاع عبر الزمن التحول لقوة ناعمة داخل القصر.

نعم لقد خصى العثمانيون عبيدهم وأفقدوهم قدراتهم الجنسية، لكنهم لم يسيطروا على طموحاتهم السياسية، لقد استطاع العبيد التغلغل والنفوذ في مفاصل الحياة السياسية والعسكرية، حتى وصل البعض منهم إلى الصدر الأعظم – رئيس الوزراء-.

والحقيقة أن التحكم في كرسي سلاطين العثمانيين لم يقتصر على المخصيون أو الآغاوات فقط، بل استطاعت المحظيات من الإماء النفاذ عميقًا داخل مراكز الحكم، لدرجة تحكّمهن في آلية انتقال السلطة بين الحكام وأولياء العهود، ولعل قصة السلطان سليمان القانوني مع جاريته “الروسية الجميلة”روكسلان” خير مثال، فتلك المرأة هي التي سعت إلى أن يقتل السلطان ابنه ولي العهدـ لتضع ابنها الصغير وليا للعهد.

وكذلك السلطان محمد الثالث الذي قتل 19 أخًا خوفًا من أن يشكلوا خطرًا عليه ذات يوم، ليضيف إليهم ابنه الأمير محمود، في وجبة مرعبة من الإعدامات ضمت 3 رضع و5 أطفال.

وهنا تكمن العديد من المفارقات، فالسلاطين لم يكونوا يحترمون ما يسمى نقاء العرق التركي، ولذلك فقد كانت معظم زوجاتهم من الرقيق الأوروبي، وهن في الأغلب فتيات صغيرات جدًا يُسرقن خلال الحروب أو الغارات من حدود الإمبراطورية، تِلْكُنَّ الإماء يصبحن خلال سنوات بعد دخولهن للقصور زوجات للسلاطين وأمهات لسلاطين المستقبل، والمتحكمات في الإمبراطورية من وراء جدران القصور السرية أو ما يسمى بـ “الحرملك”.

لقد استطعن إقصاء الأمراء، والتحالف مع الوزراء وصدور الدولة، وأقصين المنافسين، بل تسببن في قتل الكثير من الأمراء وأولياء العهود وإبادتهم، ولو تكلمت جدران الغرف المغلقة داخل قصور السلاطين لحكت عن الآلام والدماء التي سالت في الممرات.

كان العبيد في السلطنة العثمانية على أنواع، فالعبيد البيض، هم الأطفال الذين يُسرقون من أوروبا وبلاد العرب، ويجري استعبادهم ، ويُحوّل جزء كبير منهم إلى الجيش إذ ينضمون لكتائب الفرقة الإنكشارية، التي تتربى على العنف والإخلاص الأعمى للعرق التركي، والآخرون يحولون إلى القصور ليخدموا داخلها منضمين إلى الرقيق السود المجلوبين من إفريقيا وهؤلاء يُخْصَوْنَ عمدًا ليتمكنوا من البقاء والعمل داخل القصور بين النساء والمحظيات، ولِيؤْمن وجودهم بين نساء القصر خوفا على عِرْضِهن.

وفي عهد السلطان مراد الثالث، وصل اختراق العبيد إلى أقصى مداه، إذ استطاع أحد الآغوات من العبيد الأفارقة المخصيين ويسمى “الُملا علي” من الارتقاء في سلم السلطة إلى أعلاها، بسبب التنافس والمماحاكات بين السياسيين والباشوات وكذلك مهاراته الشخصية، ووصل”الملا علي” ليكون نائبًا للقاضي، ومفتشًا للأوقاف السلطانية، ثم رئيسًا قضائيًّا للعاصمة، ثم أصبح “القاديسر”، أو كبير القضاة، وليصبح أول رجل أسود من طبقة العبيد عضوًا في المجلس الإمبراطوري، حتى وصُف بأنه الشخص الذي كان يدير الإمبراطورية، كل ذلك يعطينا مؤشرًا مهمًّا، كيف يمكن للضعيف مقطوع النسب والأهل والعشيرة أن يتحكم في مصير دولة بحجم السلطنة العثمانية، بسبب الخلل في البناء الطبقي والاجتماعي الذي تسبب فيه السلاطين أنفسهم، فلا هم الذين حموه ولا هم الذين منعوا اختراقه.