أُخُوَّةُ الروح ...

لم تشفع لـ "هارون" العرب عند "جعفر" الفرس

أيُّ قارئٍ للتاريخ العباسي تستوقفه نكبة إحدى الأسر الفارسية؛ البرامكة، التي حدثت في عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد. الذي كان واعيًا أمور السياسة والحكم بشخصيته المحورية التي ظلمتها بعض كتب التاريخ، حين ربطت فترة حكمه بجاه السلطان وحياة القصور والجواري دون ذكر الجوانب الحضارية التي حدثت في عهده.

بدأ نفوذ البرامكة يتسع مع انفراد أبي جعفر “المنصور” بالحكم العباسي، وأخذ في تمكينهم من دواليب الدولة. حتى تمكنوا من ممارسة الحكم بنحوٍ مباشر، بل “كان عهد أولئك الوزراء فاتحة عهد استعبادٍ ذهبيٍّ للخلفاء العباسيين؛ إذ إنهم لم يتمتعوا من العرش إلا بظلِّه، ومن الملك إلا بصولجانه وتاجه، إلى أن جاء هارون الرشيد ووضع حدًّا لسلطة الوزراء الواسعة”.

إن أهمية دراسة موضوع “البرامكة” تُعَدُّ مقدمة أساسية لرصد خطورة جميع التنظيمات السياسية، التي تجتهد للتحكم في مفاصل الدولة، وتوجيه ناصية القرار السياسي في اتجاه يخدم أجندات التمكين، خاصةً عند أصحاب الأيديولوجيات المختلفة. فنكبة البرامكة إشارة مهمة من أجل استعمال العناصر التي تدين بالولاء أولاً وأخيرًا للدولة، بعيدًا عن التعصب لِعِرْقٍ أو قبيلةٍ أو طائفةٍ.

وقبل أي شيء، فمن الأمانة في الطرح الاعتراف بأن البرامكة، في أول عهدهم بالوزارة أحسنوا التدبير وأتقنوا التعبير، واستطاعوا أن ينالوا رضى الحكام العباسيين منذ أن تغلغل خالد البرمكي في مفاصل الدولة العباسية، بالنظر إلى قدرته على الصبر والمداهنة وحسن التدبير. وعلى نهجه سار يحيى البرمكي الذي استطاع أن يصل مرتبةً أكبر من تلك التي وصل إليها أبوه خالد وهو ما سمح له بالكيد والتدبير إلى أن تمكَّن بدعم من الخيزران -أم هارون- من إيصال هذا الأخير إلى سدة الحكم باعتباره ولي العهد الشرعي.

لم يَحِدْ جعفر بن يحيى البرمكي عن سيرة البرامكة التي مَكَّنَتْه من أن يصبح أقرب الناس إلى هارون الرشيد، فقد جمع بين “بلاغة القلم، وفصاحة اللسان وسماحة الأخلاق، والتواضع، لذلك كان عظيم المحل، جليل المنزلة عند الرشيد، وكان في الموضع الذي لا يشاركه ولا يدانيه أحد من العرب والعجم”.

لكن عند دراسة شخصية جعفر البرمكي نجد أننا أمام حالة معقدة متناقضة، إذ تكاد تجمع الكتابات على حبه هارونَ الرشيد وتفانيه في خدمته. لكن الكتابات نفسها التي تُجْمِعُ على ذلك تتباين حول أسباب سخط الرشيد عليه وهو جليسه وسميرُه وشقيق روحه. منها ما يَصُبُّ جُلَّ الأمر على الصراع على السلطة، ومنها ما يُذْهِلُ للعلاقة المعقدة التي ربطت جعفر بـ”العباسة” أخت الرشيد، وهي التفاصيل التي اختلف فيها رواة التاريخ، كالطبري برواية، وابن خلدون على سبيل المثال لا الحصر برواية أخرى.

وفي هذا الصدد، هناك صعوبة في رصد القطيعة بين البرامكة والرشيد هارون “ولذلك فإنه على فداحة نكبة البرامكة، فإن الآراء قد تباينت في أسبابها تباينًا لا حدود له…بحيث لم يَعُدْ بِوِسْعِ فاحصٍ أن يهتديَ إلى بيت الداء فيما جرى”.   

ومهما يكن الخلاف حول الأسباب المباشرة لنكبة البرامكة وجعفر تحديدًا؛ فإن التقاطعات تُجمع على أن البرامكة أحسُّوا بأن لهم فضلاً على الدولة، وبأن بناءها لم يكن ليستقيم دونهم، خاصة أنهم جمعوا بين سلطة صاحب الدولة (يحيى البرمكي)، وشوكة الجيش التي احتكرها الفضل بن يحيى أخو هارون من الرضاعة. وإذا سلَّمنا بأن طموح البرامكة وصل إلى مستوى التفكير في تركيع رأس السلطة السياسية؛ فإن انقلاب جعفر بن يحيى على صديقه وجليسه وخليفته لا يمكن تفسيره فقط بالتماهي الذاتي مع مطامع الأسرة البرمكية، وإنما أيضًا بتعقيدات رغبة جعفر الزواج من أخت الخليفة “العباسة”.

وربما دفعنا الاجتهاد إلى الاعتقاد بأن تعصب جعفر البرمكي إلى عائلته ورفض هارون الرشيد أن تختلط دماء الخلفاء العرب بدماء البرامكة الفرس قد دفع بالأول إلى التخطيط للتخلص من هذا العائق الوجودي المتمثل في الخليفة. لقد “اختلطت مطامعه (جعفر) وامتزجت باعتبارات غرامية”، و” قد حاول أن يسقط عرش الخليفة هارون ليستولي عليه”.

وخلاصة القول فإن جعفر رأى رأي البرامكة في فضلهم على الدولة العباسية والتمكين لهارون الرشيد ضدًّا على إرادة أخيه الهادي، وهي المغامرة التي كان ثمنها رأس جعفر والتمثيل بجثته، حيث اتفق المؤرخون بأن هارون “أرسل جيفته ورأسه إلى بغداد…مدينة السلام، وأمر أن ينصب الرأس على جسر، وأن يقطع البدن إلى قطعتين”.

العلاقة المعقدة مع "العباسة" دفعت "البرمكي" لمحاولة الانقلاب على "الرشيد".

وفي المحصلة نجد أن البُعد الأيديولوجي والعرقي الفارسي لم يستطع أن يتوافق مع حالة الرشيد وجعفر؛ إذ انتصرت العنصرية الفارسية على معاني الأخوة بين عربي وفارسي، وكانت جاذبة أقوى من الصفاء النفسي الصادق؛ ولو لم يكشف الرشيد خيانة جعفر؛ لَمَا أمر بقتله وهو أقرب من روحه إليه، قبل أن يقبض على أخيه الفضل ويَنْكُبَ برامكة الفرس.

وهذه التراكمات التاريخية أفرزت لنا واقعًا سياسيًّا ممتدًا في التعاطي الفارسي مع العرب، بعدم الصفاء، والكيد السياسي انتصارًا لعنصريتهم.  وهذا ما يوضح لنا معطيات بيئة اليوم في الكيد الإيراني ضد العرب، وتؤصله السياقات التاريخية.

  1. أميرة بيطار، تاريخ العصر العباسي، ط4 (دمشق: جامعة دمشق، 1997).
  2. السيِّد سالم، العصر العباسي الأول (الإسكندرية: مؤسسة شباب الجامعة، 1993).
  3. رجائي عطية، دماء على جدار السلطة (القاهرة: دار الشروق، 2017).
  4. محمد برانق، البرامكة في ظلال الخلفاء (القاهرة: دار المعارف، د.ت).
  5. محمد الخضري، محاضرات في تاريخ الأمم الإسلامية: الدولة العباسية، تحقيق: محمد العثماني (بيروت: دار القلم، 1986).
  6. نبيلة حسن، تاريخ الدولة العباسية (الإسكندرية: دار المعرفة الجامعية، 1993).