مستنزِفًا مقدَّراتهم في سبيل حلمٍ مستحيل

الاختراق الفارسي للوطن العربي سبَّب حالةً من البؤس الطويل للشعب الإيراني

في عام (2003) قامت الولايات المتحدة الأمريكية بغزو العراق، وإسقاط نظام صدام، وكان ذلك بمثابة نقطة مفصلية في تاريخ الشرق الأوسط؛ خاصةً أن الأمر حدث بتواطؤ إيراني لصالح أمريكا في غزوها العراق، ويُشار إلى أن دور بعض المعارضين العراقيين، مثل أحمد الجلبي، في تجسير العلاقات السرية بين إيران والولايات المتحدة، جعل إيران تسمح للمعارضين العراقيين على أراضيها بالعمل لصالح إسقاط النظام العراقي، في محاولة للاستفادة من حالة الفراغ السياسي التي شهدتها العراق والمنطقة العربية بعد هذا الغزو، ووصف البعض هذا الأمر بأن الولايات المتحدة قدَّمت العراق محطمًا ومُشرَع الأبواب لإيران.

وقد أكَّد رضوان السيد ذلك في نقاشاته مع المؤرِّخ الأمريكي من أصل إيراني “روي متحدة” قائلًا: “كان روي متحدة يدرك المرارة التي اشتعلت في نفوسنا جميعًا نتيجة دور إيران في الاحتلال الأمريكي لأفغانستان والعراق (2001- 2003)”.

وفي إطار النظرية الإستراتيجية التي يطرحها المفكر اللبناني جمال واكيم حول ما أطلق عليه “النزوع التاريخي لإيران للوصول إلى شرق المتوسط”؛ عملت إيران منذ ذلك الوقت على محاولة تأكيد أنها القوة الإقليمية الكبرى في المنطقة، متحدِّيةً بذلك القوى التقليدية الكبرى في المنطقة، وهذا ما تؤكِّده الوثيقة المستقبَلية التي أعدَّها ما يُعرف بمجلس تشخيص مصلحة النظام في إيران عام (2005)، لتحويل إيران إلى قوة إقليمية مركزية في منطقة جنوب وغرب آسيا.

ظهر تطوُّر جديد في نظرية تصدير الثورة التي رفعها الخميني بعد ثورته (1979)؛ إذ عملت إيران على دعم قوى سياسية خارج إيران، خاصةً القوى الراديكالية المعادية للنظم القائمة في العالم العربي، لإنشاء حكومات على النمط الإيراني، كما لعبت على تصدير فكرة ولاية الفقيه لكي يتم الجمع بين السلطتين الدينية والدنيوية، ورفض الفصل بينهما، من هنا بدأت إيران في التغلغل في المنطقة من خلال بعض القوى المحلية المؤيدة لها، أو المرتبطة بالمؤسسات الإيرانية، سواء بحكم الانتماء الطائفي أو الارتباط الأمني، كما حاولت الاستفادة من وجود بعض الفئات الاجتماعية الشيعية في العديد من دول المنطقة في فتح الباب للوجود الإيراني، كما عملت إيران على المتاجرة بالبُعد الديني لملف القضية الفلسطينية، التي أصبحت تمثل محورًا جوهريًّا في ماكينة الدعاية الإيرانية.

وكما أكَّد رضوان السيد أنه منذ عام (2005) تأزَّمَت العلاقات بين إيران والعرب جرَّاءَ استخدام إيران لعوامل الدين والمذهب والقوة في إحداث التقسيم والشرذمة في العراق وسوريا ولبنان والبحرين واليمن، ويربط بين صعود تيار المحافظين الجدد في أمريكا، وتأثيره على الشرق الأوسط، ومجريات السياسة الإيرانية: “مثلما كانت الحقبة الواقعة بين العامين 2001 و2009 هي حقبة المحافظين الجدد في السياسة الأمريكية، يمكن القول دونما تجاوز كثير: إنها كانت حقبة المحافظين الجدد الإيرانيين في إيران وسياستها الخارجية”.

وهكذا استطاعت إيران عبر نفوذها من خلال الجماعات المسلحة في العراق، ودعمها للنظام السوري، وذراعها في لبنان المتمثل بحزب الله، أصبح لها إطلالة على شرق المتوسط، تأكيدًا لحلمها القديم منذ الإمبراطورية الفارسية، كما دخلت إيران في علاقات وثيقة مع جماعة حماس التي اغتصبت قطاع غزة، وبهذا الوضع أصبح لإيران مِخلَب قط تستطيع من خلاله استفزاز إسرائيل، ومساومتها على أمنها القومي إذا اقتضى الأمر، لكن الأخطر أيضًا في علاقة إيران الوثيقة بحماس؛ لأنها أصبحت بذلك الوضع تشكِّل خطرًا على الأمن القومي المصري، بوجودها بالقرب من سيناء وقناة السويس، كما استطاعت إيران عن طريق علاقاتها المريبة مع جماعة الحوثي في اليمن، والدعم غير المسبوق لهم أن تشكِّل خطرًا شديدًا على حرية الملاحة في باب المندب، بوابة البحر الأحمر إلى المحيط الهندي.

من ناحية أخرى يشير الباحث الأمريكي من أصل عربي وليد فارس إلى أمرٍ مهم وخطير في مسألة الأطماع الإيرانية في المنطقة؛ إذ يحدِّد الأهداف بعيدة المدى لإيران في السيطرة على المناطق ذات الأغلبية الشيعية في العالم العربي، لكن الأخطر من ذلك محاولتها افتراض الصراع مع المملكة العربية السعودية لمحاولة تحقيق “الشرعية الإسلامية العالمية الموحدة” التي أعلنها الخميني عندما أعلن الجمهورية الإسلامية عام (1979).

لم يقنع المسؤولون الإيرانيون أن طموحات "الخميني" في تحقيق "العالمية الموحدة" تحت سلطة ولاية الفقيه ضربٌ من الجنون.

ويدرك الإيرانيون أن المملكة العربية السعودية بما لها من وزن وبُعد عربي وإسلامي هي التي تستطيع أن تقف في وجه الأطماع الإيرانية، ونتيجة عدم قدرة إيران على المواجهة المباشرة مع السعودية لجأت إيران إلى سياسة “الحرب بالوكالة”؛ حيث فتحت عدة جبهات في عدة جهات مع المملكة العربية السعودية، محاوِلةً فتح جبهة عن طريق الميليشيات العراقية المتحالفة مع إيران؛ للقيام بعمليات ضد المملكة، لكن هذه الجبهة أغلقت بعد زيادة الارتباط في العلاقات السعودية العراقية، أما الجبهة الإيرانية عن طريق عصابات جماعة الحوثي، فالمملكة ضمن التحالف العربي ودعم الحكومة الشرعية اليمنية تواجه هذا التحدي بكل اقتدار.

ويُفاخر الإيرانيون بتدخُّلهم السافر في الشأن العربي؛ إذ فاخَرَ المرشد الإيراني علي خامنئي بإستراتيجية تصدير الثورة إلى لبنان وسوريا والعراق واليمن، بل واتَّهَم الولايات المتحدة بالسعي لإسقاط ست دول عربية لتقليص ما أطلق عليه “العُمق الإستراتيجي الإيراني”، ومن ناحية أخرى بدأ هذا التدخل الإيراني ومبدأ تصدير الثورة يثير غضب الداخل الإيراني، بل وبعض رجال الدين المستنيرين في إيران؛ إذ يقول أحد الملالي الإيرانيين: “هناك اعتقاد أن أموال الشعب الإيراني تُنفَق في لبنان واليمن وسوريا، وحتى العراق، بينما يُرجِع النظام الإيراني بؤس الشعب الإيراني إلى مسألة الحصار الأمريكي”.

  1. جمال واكيم، أوراسيا والغرب والهيمنة على الشرق الأوسط (بيروت: دار أبعاد، 2016).

 

  1. رضوان السيد، العرب والإيرانيون: العلاقات العربية- الإيرانية في الزمن الحاضر (بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون، 2014).

 

  1. راشد أحمد الحنيطي، مبدأ تصدير الثورة الإيرانية وأثره على استقرار دول الخليج العربية، رسالة ماجستير في العلوم السياسية، كلية الآداب والعلوم، جامعة الشرق الأوسط (2013).

 

  1. مؤسسة كارنيجي، المعضلات الطائفية في السياسة الخارجية الإيرانية، صحيفة الشرق الأوسط، 30 نوفمبر (2016).

 

  1. وليد فارس، سيناريوهات حرب إيران على العرب، إندبندنت عربية، 30 نوفمبر (2021).

ضمن استراتيجية حكم الملالي في إيران

ركبوا القضايا العربية؛ سعيًا لإسقاط الأنظمة الحاكمة ودعم الموالين لهم للوصول للسلطة

اجتهد الفُرس على المستويات السياسية والعسكرية، وحتى العَقَدية، من أجل مواصلة التجييش ضد العرب، وهدفهم الأسمى السيطرة على العالم العربي وإخضاع دُوَلِه، والتي يعتقدون أنها ستتساقط تباعًا كأحجار الدومينو، من خلال الأجندة التي يتبعونها بزرع ميليشيات في بعض الدول.

وفي هذا السياق يوجِّهنا التحديد الاصطلاحي إلى الدفع بأن ظاهرة الاختراق تفترض “مشاركة أطراف خارجية بالتزامن مع أطراف داخلية في صناعة القرارات السياسية داخل الدولة الُمختَرَقة بما يتَّسق مع أهداف الدولة المخترِقة”، وهو المُعطَى الذي يمكن تلمُّسه على الأرض، خاصة منذ وصول الملالي إلى الحكم سنة (1979) على متن طائرة فرنسية وبمباركة غربية، ومهما ادَّعى البعض توجُّسه من الملالي الذين عبَّروا دائمًا عن مرونة كبيرة في تلبية مطالب الغرب بشكلٍ تجاوَز التحالف الإستراتيجي الذي رفع الشاه إلى مرتبة “دركي الغرب” في المنطقة.

ورغم العداء الفارسي المتأصل ضد كل ما هو عربي، فإن فترة حكم الشاه لم تسجِّل إستراتيجية ثابتة في استعداء العرب، أو توجُّهًا لإخضاع الدول العربية لأجندة إيران، وذلك بالرغم من التدخل الإيراني في بعض المناطق بمباركة من الغرب، كما حدث مع سلطنة عُمان، وبالمقابل فإن وصول الملالي إلى الحكم جعلهم يركبون القضية الفلسطينية ومشروع “تصدير الثورة” من أجل إسقاط الأنظمة العربية، وخاصةً الملكية منها، وبالتالي إخضاع المنطقة للحكم المباشر لملالي إيران.

إن الاختراق الإيراني للمنطقة العربية كان دائمًا في حاجة إلى طابور خامس داخل هذه البلدان، وهو ما وجدَتْه إيران في جزء من الأقليات الشيعية التي اعتقدت واهِمةً أن هناك تقاطعات مذهبية مع إيران، وبالتالي اجتهدوا في تخريب بيوتهم بأيديهم، ورفعوا شعارات الولاء للفرس، واعتنقوا عقيدة الولي الفقيه (خليفة صاحب الزمان ونائبه بالحق)، كما ادَّعى وزعم بذلك رأس “حزب الله اللبناني” حسن “نصر الله”.

لقد اجتهدت إيران في تنويع أساليب التغلغل والاختراق، وذلك باللجوء إلى القوة الناعمة تارةً، وتارةً بالعمل على خَلْق مناطق للتوحش وإدارتها بطريقة تمكِّنها من التغلغل في المنطقة، وإلحاقها بالنفوذ الإيراني، وهو نفس التكتيك الذي تعتمده التنظيمات الإرهابية، الذي نَظَّر له أبو بكر ناجي في كتابه “إدارة التوحش”.

أسهم الحليف الغربي والطابور الخامس في التغلغل الإيراني بالمنطقة العربية.

غير أن تكتيكات التوحش التي تتبنَّاها التنظيمات الإرهابية (في تَمظْهُراتها السُّنية والشيعية) لم تكن لتنجح في دولة قوية تمتلك شرعية تاريخية ومشروعية دستورية وقانونية، ولذلك “وجدت إيران في أزمة بناء الدولة العربية وسيلة مهمة في اختراق مؤسسات السلطات الرسمية وغير الرسمية… وقد مكَّنها في ذلك العديد من أذرُعها الخارجية، كوكالة المخابرات القومية، أو السفارات الخارجية، أو صناديق التنمية الاجتماعية والدينية”.

إن تغلغُل إيران المباشر أو غير مباشر في الدول العربية جعلها تتحكَّم في أهم مفاصل الدولة المختَرَقة، وبالتالي امتلاك ناصية القرار السياسي، “حتى وصل الأمر أحيانًا في الاعتراف أو عدم الاعتراف بالمؤسسات الحاكمة نفسها”، في ظل تَشرْذُم المشهد السياسي، وعدم الالتفاف على أسرة أو رمز عروبي قادِر على الوقوف في وجه الأطماع الإيرانية.

ويُمكِن القول بأن نجاح التغلغل الإيراني في المنطقة العربية لم يكن مَناطُه أو مَرَدُّه، بالضرورة، قوة إيران العسكرية أو السياسية، وإنما وجود طرف ثالث متمثِّل في الحليف الغربي، أو جماعات شكَّلَت طابورًا خامسًا داخل الدول العربية، وهنا نسجِّل بأن مجموعة من تنظيمات الإسلام السياسي وباقي التنظيمات الإرهابية، سواء تلك التي ادَّعَت انتماءها للسُّنة أو للشيعة، كانت معولًا خبيثًا نَخَرَ العديد من البلدان العربية والإسلامية.

ولعل حب الاستنساخ والتقليد قد تمكَّن من بعض التنظيمات الدينية-السياسية التي “أعربت عن تأثُّرها بالنموذج الثوري الإيراني، وعدَّته نموذجًا قابلًا للتقليد، من جانبها اعتنقت إيران مبدأ العالمية الإسلامية، وجاهَرَت أحيانًا بدعمها لبعض الحركات الإسلامية… ولهذا فإن بقاء الثورة الإسلامية في الحكم في إيران في حد ذاته يمثِّل مصدر دعم للعديد من الجماعات الإسلامية المتطرفة، خاصة تلك ذات الطابع العنيف”.

إجمالًا يمكن القول بأننا أمام مؤامرات ثلاثية الأبعاد والأطراف على بلادنا العربية، وإزاء “مثلث الشر” أضلاعه الثلاثة عدو مُتربِّص (إيران)، وآخر متواطئ ومتآمِر (الغرب)، وثالث خائن وعميل (التنظيمات السياسية-الدينية “العربية” الموالية لإيران)، وهو ما يدفعنا إلى ضرورة التفكير في إستراتيجية متكاملة تأخذ بعين الاعتبار هذا الثالوث الخبيث والمتآمر.

  1. خالد المطلق، “الغزو الإيراني للدول العربية.. الخطط والمآلات والحلول”، موقع مركز حرمون للدراسات المعاصرة (2021).

 

  1. محمود الجازي، “النفوذ الإيراني في المنطقة العربية على ضوء التحولات في السيادة الأمريكية تجاه المنطقة 2003- 2011” (عمَّان، الأكاديميون للنشر والتوزيع، 2014).

 

  1. وصفي عقيل وخالد الدباس، “الاختراق السياسي الإيراني لدول الجوار العربي.. دراسة حالة العراق، البحرين، اليمن”، مجلة دراسات العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة اليرموك -الأردن، مج.45، ع4 (2018).
تشغيل الفيديو

بحجة المظلومية السياسية والتاريخية

مداخل الاختراق الإيراني لدول الجوار العربي

الغريب في السياسة والإستراتيجية الإيرانية أنها تنظر للعالم من خلال حدودها الغربية العربية، الذين تكرههم وتتمنَّى زوالهم، في حين عُمقها وعِرقها وتراثها ولغتها يمتد شرقًا إلى خراسان وبلوشستان وأوزبكستان، وليس غربًا حيث عرب العراق والشام والجزيرة العربية، إنها حالة مستعصية على الفهم في البعد السياسي، لكنها مفهومة في بُعدها التاريخي، والكراهية المتوارثة التي دمرت إيران قبل أن تدمر غيرها، فبينما تفرَّغت الأمم للتقدُّم والتطور، ونسيت إمبراطورياتها التاريخية التي دفنها التاريخ قبل مئات السنين، لا يَزال الفرس يحلمون باستعادة عرش كسرى ذات يوم، فلا هم الذين استعادوه، ولا هم الذين طوَّروا من بلادهم.

الأطماع الإيرانية ليست وليدة للحظة السياسية الفارقة التي تلت الثورة الإيرانية عام (1979)، وهي لحظة قلبت منطقة الشرق الأوسط تمامًا، وحوَّلَته من صراع عربي إسرائيلي إلى صراع آخر عربي إيراني، ومع أن العرب لم يفكِّروا يومًا في الاحتكاك بإيران أو الصراع معها منذ دخول الإسلام إليها في عهد الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، إلا أن الإيرانيين هم من يحملون الأطماع والخصومة.

الإيرانيون يُخطِّطون للتمدُّد خارج حدودهم التاريخية، والعرب على عكسهم تمامًا، لم يحاولوا حتى استعادة أراضيهم المنهوبة من دول التخوم الأعجمية في الأحواز والأناضول، إلا أن ذلك لم يشفع لهم، بل إن الأطماع في أراضيهم وتفتيت بنيتهم السياسية والاجتماعية هدف رئيس للإيرانيين وغيرهم.

مظلومية سياسية وتاريخية:

إيران دولة توسعية تعيش على مظلومية تاريخية سياسية، بسبب الانتصار العربي في معركة القادسية وانهيار ملك كسرى، وبالتالي انتهاء الدولة الساسانية للأبد. هذه المظلومية السياسية التي سبغت الوجدان الإيراني الفارسي نجدها تظهر لاحقًا على شكل مظلومية دينية، ففي العام (1500) وما بعده، بعدما نشر الصفويون المذهب الإثنى عشري بصيغته الفارسية بالقوة، وعزَّزوا من خلاله المظلومية الدينية التي استخدموها، وما زالوا يستخدمونها في التغلغل وأسْر الوجدان العربي، وهي في حقيقة الأمر لم تكن سوى حركة سياسية لإبقاء المعركة مفتوحة مع الخصوم العرب.

لقد أخذت الحرب الإيرانية ضد العرب مسارَين مفتوحين؛ الأول سياسي ثوري، والآخر طائفي مذهبي، يسعيان في نهاية الأمر لاستعادة أحلام الإمبراطورية الفارسية من فوق ظهر هذين الجسرين، وفي طرُقِهم التوسعية استطاع الإيرانيون الفرس أول الأمر الاستيلاء على ساحل الأحواز العربي بمساعدة البريطانيين، وبذلك سيطروا على ضفة واحدة من الخليج العربي، وما زالوا يخططون للقفز إلى الضفة الأخرى الممتدة من البصرة إلى مسقط، وهو حلٌّ تحوَّل إلى عمل على الأرض من خلال الوكلاء بالنيابة الذين يعملون لمصلحة إيران، أو من خلال إثارة الفوضى الإقليمية التي تُشعِل نيرانها إيران كلما انطفأت.

ومع هذا يبرز سؤال مهم: هل تختلف سياسة ملوك إيران الذين سقط حكمهم مع رحيل الشاه عن الملالي؟؟ الجواب: قطعًا لا، فالبحرين على سبيل المثال وقُبَيل الثورة الإيرانية كانت محطَّ أطماع إيران الشاه، بل كاد أن يبتلعها ويحوِّلها إلى إقليم تابع له بحجة استعادة أملاك فارسية، وكذلك الجزر الإماراتية التي تم احتلالها في عهد الشاه.

الاختراق الناعم.. أم الاختراق الخشن:

عملت إيران الخميني منذ استيلائها على الحكم في طهران على بلورة توجُّهات القوى السياسية الحاكمة فيها باتجاه المشاركة الفاعلة بسياسات الإقليم، وهذا ما تؤكِّده الوثيقة المستقبَلية التي أعدَّها مجلس تشخيص مصلحة النظام عام (2005)، لتحويل إيران إلى قوة إقليمية مركزية.

أما على الصعيد القانوني فقد تضمَّن الدستور الإيراني نصوصًا تدعو للإشادة بالثورة الإسلامية باعتبارها حركة تغييرية جديدة في المنطقة، أسهمت في مسار النهضة العقائدية الإسلامية الأصيلة، كما بيَّن في ديباجته نصوصًا واضحة على أهمية تعزيز ولاية الفقيه في العالم الشيعي، ومحاربة الرجعية والديكتاتورية، وتعميم القيم الإسلامية، ومساعدة المستضعَفين في الأرض – كما تزعم-  وبعد أن ترسَّخَت أركان حكم “الولي الفقيه” كمؤسسة واضحة في النظام السياسي الإيراني بعد وفاة الخميني برز هناك تياران سياسيان رئيسان في إيران يدعوان إلى أخْذ إيران لمكانتها الإقليمية.

الأول: التيار المحافظ المتشدِّد، الذي يمثِّله أساسًا رجال الدين المسيطرون على مؤسسة ولاية الفقيه ومجلس تشخيص مصلحة النظام وقيادة الحرس الثوري، الذين يحكمون بطريقة نظام الحوزة العلمية الدينية، وقد ظهرت مواقفهم المتشددة في مسائل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، والملف النووي الإيراني، والأزمة السورية، ودعم حزب الله اللبناني، وتقوم مبادئهم على فكرة استخدام البُعد العقائدي المستند إلى قاعدة الإسلام الثوري كعامل مؤثر في سياسة إيران الخارجية، وجعل إيران قلب العالم الإسلامي الشيعي، وبرفض التواجد الأجنبي في المنطقة.

الثاني: تيار يدَّعِي الدبلوماسية، ويُسمِّي نفسه بالإصلاحي، يتبادَل الدور مع الأول ويقدِّم صورة إصلاحية سياسية للإيرانيين.

سياسة القضم المتزامنة:

لعبت الأوضاع الداخلية التي مرَّت بها كل من العراق، والبحرين، واليمن، دورًا كبيرًا في التأثير على استقرارها واستمرارها كدول وطنية، إلا أن التدخلات الإيرانية وتدهور البناء الاقتصادي والاجتماعي في بعض تلك الدول أدى إلى أن تتحول إلى أرضية جاهزة للعبث بها من إيران، التي عملت على بناء سياسة يمكن أن نطلق عليها سياسة القضم المتزامنة، وهي التمدد الفكري الذي يلحقه تمدُّد عسكري عبر الوكلاء المحليين.

وكان ذلك واضحًا وجليًّا في لبنان أولًا، التي كانت قفزة مهمة لإيران، حيث كانت الحرب الأهلية عاملًا فعلًا في الثمانينات، ووجود رأس حربة جاهز – الأحزاب ذات الميول الإيرانية مثل أمل – وهو ما ساعد لاحقًا في بناء تنظيم حزب الله الإرهابي، الذي تقدَّم ليكون وكيلًا لإيران في لبنان، واستطاع خنق مفاصل الدولة اللبنانية.

في اليمن أيضًا كان الزيديون المتطرفون- وهم لا يشملون كل المذهب الزيدي- يَغْشَون إيران، وهناك تم تحويلهم لعملاء ومندوبين أنشؤوا الذراع الحوثية التي تشكَّلت بدايةً كمدارس دينية ومذهبية، واستطاعت أن تتحوَّل سريعًا إلى تنظيم مسلح.

العراق الذي بقي بمنأى عن إيران حتى سقوط بغداد العام (2003)، احتضنت إيران فيه أحزابًا وتنظيمات ربَّتْها على مدى عِقدَين، وعند السقوط دفعت بها إلى واجهة العراق، وخلال أشهر قضت تلك المليشيات على وجه العراق العربي، أو كادت تفعل.

لم يكن ذلك الاختراق الوحيد للعالم العربي، ففي البحرين تدخلت إيران بقوة، وحاولت الانقلاب على الدولة فيه بمساعدة ميليشيات متطرفة، ولا تزال إيران تصر على التدخل في البحرين، وتحويله إلى منطقة سيولة قابلة للانهيار ذات يوم.

يقول الكاتب صفوت جبر في بحث منشور له تحت عنوان “التمدد الإيراني في الوطن العربي.. بين الاختراق السياسي وحلم المد الشيعي”: “صرَّح الخميني حال وصوله لطهران فبراير 1979: سنُصدِّر “الثورة” إلى كل العالم، حتى يعلم الجميع لماذا قمنا بالثورة، لقد كان هدفنا الاستقلال بمعنى التحرُّر من القيود والتبَعية للشرق والغرب، والحرية، إن ثورتنا يجب أن تصدَّر إلى كل أنحاء العالم، تصدير الثورة هو أن تستيقظ كل الشعوب والحكومات”، هكذا صاغ آية الله الخميني الأيديولوجية الإيرانية الجديدة.

إن التحوُّلات والثورات العربية ساعدت إيران في التدخل في شؤون بعض الدول العربية، ويتَّضح ذلك جليًّا في التمدد الإيراني في -كثير من الدول العربية-، فكلَّما زادت الطائفية والحروب الأهلية كلما نشط الدور الإيراني والحرس الثوري في بلدان الوطن العربي، وفي الوقت نفسه ضعف المؤسسات والمنظمات العربية أعطى إيران فرصة ذهبية لإحلال الدور العربي هناك وإبداله بالإيراني.

التحولات والثورات ساعدت إيران في التدخل في شؤون بعض الدول العربية.

تجيد إيران لعبة الكَرِّ والفَرِّ السياسي مع الجانب العربي، ففي الوقت الذي تتمدَّد فيه في اليمن وسوريا والعراق، وتقتل معارضيها من الأكراد ومجاهدي خَلْق الإيرانية؛ نجدها تُغازِل العرب من خلال تصريحات بشأن عمل مصالحة أو اتفاقيات إستراتيجية، ولكنها في الوقت نفسه تساند المعارضة المسلحة في الدول العربية من خلال ميليشياتها.

  1. خالد المطلق، “الغزو الإيراني للدول العربية.. الخطط والمآلات والحلول”، موقع مركز حرمون للدراسات المعاصرة (2021).

 

  1. صفوت جبر، “التمدُّد الإيراني في الوطن العربي.. بين الاختراق السياسي وحلم المد الشيعي! السياسة الخارجية الإيرانية منذ الثورة الإسلامية 1979″، مجلة أضواء للبحوث والدراسات، بغداد (2021).

 

  1. محمود الجازي، “النفوذ الإيراني في المنطقة العربية على ضوء التحولات في السيادة الأمريكية تجاه المنطقة 2003-2011” (عمَّان.. الأكاديميون للنشر والتوزيع، 2014).

 

  1. وصفي عقيل وخالد الدباس، “الاختراق السياسي الإيراني لدول الجوار العربي.. دراسة حالة العراق، البحرين، اليمن”، مجلة دراسات العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة اليرموك -الأردن، مج.45، ع.4 (2018).